قضيةُ روثكو
لم أرَ من فرانك روثكو (1903-1970)، الرسام الأميركي، إلا القليل، وعبرَ كتبِ الفن خاصة، واليوم يُكرسُ متحف «التيت مودرن» عدداً من قاعاته الكبرى للوحاته المتأخرة، مناسبة رائعة لتأملِ عمله عن قرب، وبصورةٍ مباشرة.
«التيت مودرن» مبنى ضخم لمعملٍ قديم، يُطل، وأنا أُطلُّ معه، على «التيمس» تحت شمس خريفية رائقة كماء النهر. أُسّس حديثاً، مُلحق لمتحف «التيت بريتِن»، الذي يبعد عنه قرابة ثلاثة أميال، وصارَ المبنى الأولُ لأعمالِ الحداثة في القرن العشرين، وانصرف الثاني للتيارات الطليعية لما بعد الحداثة، ولا شك أن روثكو أحد أعلامها. قطعتُ الغرف التسع مُتعجلاً، فقد تعلمت من القراءة، حيث تمنحني صفحاتُ الكتابِ الأولى رغبةَ في أن أواصل أو أن أهمل الكتابَ جانباً، أن أتعامل مع الفنون الأخرى بالطريقة ذاتها. كانت اللوحاتُ التجريدية الضخمة تحثّني على الخطى المتعجلة، فهي شديدة الشبه بعضها مع البعض الآخر. الكثير منها داكنُ الحمرة بأعمدة رمادية أو سوداء تتوسطها، وأخرى تنقسم نصفين، يحتل الأسود النصف الأعلى، والرماديّ الأسفل، وأخرى سوداء تماماً. في الغرفة الأخيرة تذكرتُ الكثيرَ من الكلام النقدي المتحمس، الذي قرأته عن روثكو، وعن تقنيات اللون لديه، والفيض العاطفي الذي يمنحه فنه للكيان الشاعر، فانتفض الجانبُ الشاعرُ بي، وقررتُ أن أعيدَ الجولةَ في الغرف التسع، ولكن بروح المدقّق في التقنية، المترقّب لفيض العواطف. كان المعرضُ يزدحمُ بجمهور متوسط الأعمار، نسبةُ الطلبة فيه عالية، يقفون أمام اللوحات بصمت الحائر، يقتربون منها، ويحدقون في نسيج اللون، ثم يبتعدون، خصوصا أن في منشوراتِ المعرض الكثيرَ من الإشارات على شاكلة «أسئلة عديدة بشان تقنية روثكو مع اللون لم يُجب عليها بعد... مع استعمال الأشعة ما فوق البنفسجية يمكن لنا أن نرى تقنيته في وضع الطبقات اللونية في أجزاء من اللوحة، محددة كإجراء مُقرر مُسبقاً لعملية التأليف، في الإضاءة الخافتة، حيث يُفضل روثكو أن تُعرض لوحته، لا يمكن أن تتضحَ للمشاهد تفاصيلَ كهذه...». روثكو يُفضل الضوء الخافت لرؤية لوحته، وفي الضوء الخافت لا يمكن رؤية اللوحة على حقيقتها!! وعلى المشاهد أن يوفّر أشعة ما فوق بنفسجية. النقد الإيهامي موَزّع على اتجاهين، إما أن يكون جداراً إسمنتياً لا يُخترق، أو واضحاً مُثقلاً بالتباسات مُحيرة، وكلا الاتجاهين يتمتّعُ بمكابرةِ وغطرسةِ الواثق، من أجلِ ضمان إخافة الجمهور، ثم حشرِه في الوهم بعد ذلك. يحدث هذا بين الزعيم والشعب، بين المثقف والقراء، وهو جليٌّ في النقد التشكيلي العربي هذه الأيام. جمهورُ روثكو ذكرني بجمهور مهرجانات الشعر العربي الضخم، يُقبلُ أولاً بدافع رؤية النجم، ثم بدافع غريزة النشاط الجماعي، ثم بسماع الشعر، يخرج الشاعر له فيبهره، ثم سرعان ما ينصرفون إلى ذاكرتهم الشخصية، أو مخيلتهم الشخصية، أو الصحبة المجاورة، أو الملل. هناك قلة قليلة ممن ينصرف لمواصلة الإصغاء بحيوية، وقلة من الشعراء من يعرف ويعترف بهذه الحقيقة. هناك مُناخ يتنفسه الجميع على تبادل الإيهام، أسسته وسائل «ثقافة إعلام» بالغة الهيمنة. جاء روثكو، وهو صبي، مع عائلته الروسية اليهودية، المهاجرة إلى أميركا، لم يكتشف ميله الفني إلا بعد أن تجاوز العشرين من العمر، حيث بدأ يعلّمُ نفسه الفن، ويطّلعُ على أعمال الفنانين الكبار، محاولاتُه ونشاطُه الأول، رغم اتسامه بالتطرف لم يجلب إليه الأنظار، وتعرض لتأثيرات التعبيريين والسورياليين، لكنه اكتشف صوته الخاص في عام 1947: اتساع رقعة اللوحة بدرجات لون واحد، يتراكم على بعض، حافة اللون يتركها غير محددة، بالقدر الذي يمنح اللوحة نبضاً غامضاً. في عام 1970، بعد أن تيقّنَ أن صدى سعيِهِ المبتكر سرعان ما تلاشى في ضجيجِ التياراتِ الشابة الجديدة، انتحر داخل مرسمه، وكان انتحاره هذا الوازعَ الأساس لإعادة تقييمه في الأوساط النقدية، وبمبالغة. ولا شك أن يهوديته دعمت ذلك. حين أهدى إلى «التيت غاليري» عدداً من لوحاته قبل موته بقليل، وضعها المتحف في مخازنه. لكنه بعد انتحاره خصص لها قاعة باسمه!