إن تعيين القهوجي، إذا ما نظرنا اليه في العمق، يعطي اللبنانيين الضوء المنتظر في نهاية نفقهم المظلم. ذلك أن تكريس هذا التعيين من دون انقلابات عسكرية أو من ينقلبون على شرعية السلطة مهما كانت ظالمة وقاسية، من شأنه أن يخلق سابقة يمكن التعامل معها في الميدان السياسي المدني وفي النطاق الوظيفي على اساس مبدأ الكفاءة وليس العائلة أو الطائفة.

Ad

وصول العميد جان قهوجي إلى رئاسة قيادة الجيش اللبناني يحمل أكثر من معنى سياسي وعسكري واجتماعي، ولعل الأهم هو العامل الاجتماعي، فالعميد الذي صار عماداً بعد تعيينه حسب ما تقضي الأصول المتعارف عليها في المؤسسة العسكرية اللبنانية، ينتمي اجتماعياً إلى طبقة كانت محرومة من الوصول إلى المراكز الأولى في الدولة اللبنانية منذ قيامها نظراً لسيطرة العائلات السياسية المعروفة على تبوء هذه المراكز وتوارثها أباً عن جد. وما كان سابقاً معمول به في الجيش، مازال ساري المفعول في عالم السياسة والسياسيين إلى اليوم. فالاختيار للمراكز الاولى كان ولايزال يتطلب مواصفات الانتماء إلى العائلات الكبرى. أما المواهب والكفاءة الشخصية فهي ثانوية. ذلك أن كل من لا ينتمي إلى عصبة هذه العائلات يسقط في المادة الاولى من الامتحان وبالتالي يخرج من لائحة المحظوظين إلى غير رجعة. وتعيين العماد قهوجي قائداً للجيش قد خرق، وربما للمرة الأولى، هذه المعادلة الظالمة في الصميم. صحيح أن بعض الذين سبقوه في قيادة الجيش، وهم قلـّة قليلة، لا ينتمون إلى عائلات الدرجة الاولى، لكن الصحيح ايضاً انهم كانوا أعضاء في عائلات الدرجة الثانية أو الثالثة. ولا أرى موجباً لإعطاء الامثلة حتى لا أدخل في متاهات ذكر الاسماء. لكن جان قهوجي هو الاول من نوعه الذي جاء من خارج إطار العائلات صاحبة الدرجات المتفاوتة في حكم لبنان، ولم يأت نتيجة لتسوية عائلية، أو مساومة سياسية، أو تحت تأثير «ضغط ما» من هنا في الداخل أو هناك في الخارج، بل فرضته عقلية جديدة باتت تسود وتنتشر في الجو اللبناني نتيجة الفشل الكارثي للسياسيين القدامى اصحاب الالقاب العائلية. هذا الفشل الذي اوصل لبنان إلى الكوارث المتتالية التي شهدناها منذ الاستقلال في العام 1943 إلى يومنا هذا.

انطلاقاً من هذه النظرة، فإن تعيين القهوجي، إذا ما نظرنا اليه في العمق، يعطي اللبنانيين الضوء المنتظر في نهاية نفقهم المظلم. ذلك أن تكريس هذا التعيين من دون انقلابات عسكرية أو من ينقلبون على شرعية السلطة مهما كانت ظالمة وقاسية، من شأنه أن يخلق سابقة يمكن التعامل معها في الميدان السياسي المدني وفي النطاق الوظيفي على اساس مبدأ الكفاءة وليس العائلة أو الطائفة. إنها خطوة مهمة أولى في مرحلة طويلة لإعادة بناء لبنان المستقبل. والمهم أن القطار قد تحرك اخيراً، والأهم ألا يتوقف مهما كان بطيء الحركة، لأن في استمرار تحركه مزيداً من تكريس الديمقراطية العميقة وتحولها من «ديمقراطية العائلات» إلى ديمقراطية كاملة الأوصاف لكل الشعب دون تمييز أو تفريق. والحقيقة اللبنانية غير القابلة للنقاش أو الجدل هي أن لبنان والديمقراطية توأمان سياميان لا يمكن فصلهما مهما بلغت قدرة الجراحين ومهارتهم. فاللبنانيون قد عاشوا في الماضي مرحلة «نصف الديمقراطية» وهم الآن يطرقون باب الديمقراطية الكاملة. وهذا جيد، بل ممتاز يبشر بالخير كل الخير للبنان ولمحيطه العربي.

نظرة سريعة إلى سجل نشأة العماد جان قهوجي تعطي الدليل على ذهبنا اليه. فالعماد وُلد في بيئة شعبية، وكان أبوه في سلك الدرك (الجندرما) يخدم في حفظ الأمن في مختلف أنحاء القرى والبلدات اللبنانية.

ولد العماد في البلدة الحدودية الجنوبية عين أبل قضاء بنت جبيل في 23/9/1953، لكنه في الاصل من بلدة بعدران في الشوف، وتطوع في الجيش برتبة تلميذ ضابط وأُلحق بالمدرسة الحربية اعتباراً من 1973/10/10ورقي إلى رتبة ملازم في 1976/7/1وتدرج في الترقية حتى وصل إلى رتبة عميد (جنرال) في 2002/7/1 وبعد تعيينه لقيادة الجيش رقي إلى رتبة عماد وهي رتبة كل قائد للجيش في لبنان.

من خلال الاطلاع على سجل عمله في المؤسسة العسكرية يتضح انه لم يعمل في الإدارة ولا مرة واحدة، بل كان يُوزع على مهمات قتالية في مختلف الالوية. وكانت آخر مهمة له قبل أن ينتقل إلى قيادة الجيش قائد لواء المشاة الثاني واستلم هذا المركز في 2002/7/29 ما يعني أنه شارك في حرب يوليو 2005 وفي حرب مخيم نهر البارد، وكان على صلة وثيقة جداً بالعميد فرنسوا الحاج الذي اغتيل في بعبدا والذي كان المؤهل الأوحد لتولي قيادة الجيش بعد أن تنتهي مدة العماد السابق ميشال سليمان الذي انتخب لرئاسة الجمهورية. والملفت للنظر انه بعد تعيينه توجه إلى القصر الجمهوري لمقابلة رئيس الجمهورية، كما تقضي الأصول، ومن هناك توجه فوراً لزيارة منزل زميله الشهيد فرنسوا الحاج مما يشير إلى عمق العلاقة بين الرجلين. أما دوراته الدراسية فقد كانت في الولايات المتحدة والسويد وايطاليا وبريطانيا. وآخر هذه الدورات في ألمانيا حيث تلقى العلوم الحديثة في مكافحة الارهاب. وهو إلى جانب كل ذلك يجيد التحدث بطلاقة بعدة لغات أجنبية أهمها الانكليزية والفرنسية والايطالية.

إن سيرته الذاتية تدل على أنه ضابط ميداني قتالي لذلك بات يعرف في اوساط وزارة الدفاع بالعماد المقاتل.

هناك أكثر من رواية يصل معظمها إلى مرتبة الإشاعة حول ارتباطاته السياسية. فلبنان لم يصل بعد إلى ممارسة مبدأ الفصل الكامل بين السلطات العسكرية وبين الهوى السياسي. لكن ما هو معروف وموثوق انه خدم في أواخر الثمانينيات تحت قيادة ميشال عون عندما كان قائداً للجيش ورئيساً للوزراء وكان من المقربين جداً اليه، مما يدفع إلى الاعتقاد انه لو كان له ميول سياسية ما فإنه «عوني الاتجاه» نسبة إلى ميشال عون. ولعل هذا ما دفع وزراء وليد جنبلاط وسمير جعجع إلى التحفظ على تعيينه بينما وقف وزراء سعد الحريري موقف المتفرج مع إظهار عدم الرضا بصورة شفهية. كذلك فإن الكلام المتداول بين صفوف كبار الضباط أن الرئيس سليمان وقف على الحياد عند طرح اسمه وترك الحرية للسجلات العسكرية للمرشحين كي تقول الكلمة النهائية. أيضاً هناك أقاويل شبه ثابتة بأن العماد قهوجي تعرض إلى محاولتي اغتيال في أعقاب اغتيال زميله فرنسوا الحاج مما يدل على وجود «مخطط ما» لتصفية المشاركين العسكريين الكبار في أحداث نهر البارد المؤهلين لتبوء منصب قائد الجيش. غير أن مصادري العسكرية لا تنفي ولا تؤكد ذلك، بل ترفض أن تتحدث عن هذا الموضوع. لكن ما هو شبه مؤكد أنه عندما استشير القهوجي بإمكان تعيينه قائداً للجيش كما تقضي الأصول، وذلك قبل صدور قرار التعيين بعدة أيام، قال: أنا جندي لا أرفض أي مهمة قتالية، لكنني أتمنى ألا يتدخل «أحد» في شؤون إدارة المؤسسة العسكرية. ولو حدث ذلك سأقابله بالرفض الشديد مهما كانت النتائج ومهما علا شأن المتدخلين.

لقد حسم العماد جان قهوجي اتجاهاته بوضوح كامل منذ اليوم الاول لصدور مرسوم تعيينه وبذلك أظهر هويته وقطع بالتالي دابر القيل والقال. ففي أمر اليوم رقم (1) الذي وزعه على الضباط والجنود إثر تعيينه قال العماد قهوجي في جملة ما قال: «... هناك عدو على الحدود ما انفك يستهدف الوطن بأسره، وهناك إرهاب في أكثر من منطقة يزرع الخوف والرعب في النفوس، لذا يجب ألا نسمح بأن تمتد يد الغدر والعمالة إلى جسم الوطن، الذي لا يزال ينزف، وعلينا مضاعفة الجهود لوقف هذا النزف». وفي مكان آخر من هذا الامر اليومي قال: «... البقاء على مسافة واحدة من الجميع، والتزام القوانين ومعايير العمل المؤسساتي والتمسك بروح المقاومة في وجه كل من يحاول التطاول على أرض لبنان وسلامة شعبه». ثم قال: «... من موقعي هذا، أعاهدكم اليوم بألا أدخر جهداً في سبيل تعزيز قدرات الجيش عديداً وعتاداً وتدريباً». ثم انتهى إلى القول: «فلتبق عيونكم شاخصة إلى الجنوب لاستعادة الأرض التي لا تزال قيد الاحتلال، وإلى الداخل لترسيخ الأمن والاستقرار وتوفير المناخ الملائم لممارسة الديمقراطية والحريات العامة التي كفلها الدستور والقانون».

* كاتب لبناني