حرب برامج التصفح الثانية

نشر في 14-09-2008
آخر تحديث 14-09-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت بعد أن بلغت العاشرة من عمرها، تهدد شركة «غوغل» الآن بإعادة إشعال شرارة «حرب برامج التصفح» التي اندلعت أثناء تسعينيات القرن العشرين، حين نجح متصفح شبكة الإنترنت، «إنترنت إكسبلورر»، في القضاء على منافسه «نيتسكيب نافيجاتور». ولكن ها نحن الآن أمام برنامج كروم (Chrome) من إنتاج شركة «غوغل»، والذي يَـعِد هذه المرة بتبديل الأسس الاقتصادية التي تقوم عليها صناعة البرمجيات بالكامل، ولا يرجع هذا إلى إبداعه الفني في ربط أنواع مختلفة تمام الاختلاف من البرامج بمتصفح للإنترنت فحسب، رغم أنه بهذا يزيل الحاجة إلى برنامج مثل «ويندوز»، الذي كان فيما سبق يتحكم في الوصول إلى أنواع البرامج كافة.

إن التقنية الجديدة التي تستخدمها شركة «غوغل» مبهرة حقاً، ولسوف تثبت بلا أدنى شك أنها ملائمة لاستخدامات العديد من المستهلكين بمجرد الانتهاء من حل المشاكل الأمنية الأولية التي تواجهها. ولكن الإبداع الجوهري يكمن في منطقة أخرى. فبرنامج «كروم» يشكل تقدماً ثورياً لأنه يقدم تناولاً جديداً تماماً للمعضلة التي خلقها النظام القانوني والتنظيمي لسياسة المنافسة في الميدانين القانونيين الرئيسيين في العالم، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

أثناء الفترة بين عامي 1995 و1997، كاد «إكسبلورر» يقضي تمام القضاء على «نافيجاتور»، رغم أن الأخير كان البرنامج الذي فتح شبكة الإنترنت العالمية في البداية أمام أغلب المستخدمين، وبدا آنذاك أن مجال هيمنته غير قابل للاختراق. ولم تكن الميزة الرئيسية التي تميز بها برنامج «إكسبلورر» فنية في المقام الأول، بل إن سبب تميزه كان يتلخص في أن برنامج «ويندوز» من إنتاج شركة «مايكروسوفت» قدَّم برنامج التشغيل للأغلبية الساحقة من الحواسب الشخصية. ونتيجة لهذا فقد بات من الممكن دمج برنامج لتصفح الإنترنت- بل وغير ذلك من برامج الوسائط- في هيكل «ويندوز» كحزمة برمجية كاملة.

والحقيقة أن القدرة على الحصول على أنظمة التشغيل والبرامج المختلفة في حزمة واحدة جعلت الحياة أيسر وأكثر سلاسة بالنسبة للمستخدم العادي. فقد أصبح كل ما يحتاج إليه بين يديه (بل وربما أكثر مما يحتاج إليه) بمجرد شراء الحاسب الآلي. إلا أن هذا تسبب أيضاً في تضييق مساحة الاختيار، والانتقاء بين البرامج المختلفة والجمع بينها. ولم يكُف منتقدي «مايكروسوفت» عن الشكوى فيما يتصل بهذه القضية، فزعموا أن دمج برنامج التصفح في نظام التشغيل كان سبباً في استبعاد حلول برمجية متفوقة.

على سبيل المثال، كان العديد من المستخدمين يفضلون برنامج معالجة الكتابة «وورد بيرفيكت» على برنامج «وورد» الذي قدمته «مايكروسوفت»، ولكن سهولة الحصول على أغلب البرامج في حزمة واحدة كانت سبباً في إعطاء الأفضلية لبرنامج «وورد» وانتشاره على نطاق أوسع، فدفع بمنافسه إلى الانقراض.

إن تميز «مايكروسوفت»، ونموذجها التجاري، يرجعان إلى صراع قانوني مطول آخر. ففي الأصل لم تكن برامج الكمبيوتر سلعة تشترى، بل كانت عبارة عن خدمات. ولقد نجحت شركة «آي بي إم» في اكتساب وضع مهيمن لأنها كانت تؤجر حزم برمجيات مصممة بعناية وفقاً لاحتياجات العملاء الأفراد. ولم تبِع أي شيء، لا أجهزة الحاسب الآلي ولا البرامج. وآنذاك بدا نموذج التأجير الذي تبنته شركة «آي بي إم» وكأنه يتحدى الفلسفة القانونية لسياسة المنافسة بالكامل في الولايات المتحدة، وهي الفلسفة التي تأسست في عصر «الصفقة الجديدة».

كان الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت يسعى في الأساس إلى السيطرة على التجارة الأميركية بوضع مستويات للأسعار، ولكن حين رفضت المحكمة العليا للولايات المتحدة هذا التوجه القانوني، بدأت إدارته في استخدام سياسة المنافسة كأداة لتحدي أوضاع الشركات المهيمنة على السوق. بيد أن سياسة المنافسة تواجه صعوبة ضخمة في التعامل مع الصناعات التي تسمح فيها التطورات الفنية الثورية بخلق احتكارات فورية.

على غرار فلسفة تحدي الأوضاع السائدة، شرعت وزارة العدل الأميركية في عام 1969 في إجراء تحقيق شامل في أنشطة شركة «آي بي إم»، التي كانت آنذاك قد أحدثت ثورة في عالم الحسابات التجارية بتقديم جيل جديد من الحاسبات أطلقت عليه «360». ولكن القضية ظلت تسير بتثاقل إلى أن رفضتها المحكمة في عام 1982 باعتبارها «تفتقر إلى الأساس القانوني». إلا أن «آي بي إم» كانت متوترة لأن قضية الاحتكار ظلت تشكل تهديداً، فبدأت في التراجع عن نموذجها التجاري. والحقيقة أن الوضع الحالي لشركة «مايكروسوفت» يُـعَد نتيجة لدعوى الاحتكار القديمة التي أقيمت ضد شركة «آي بي إم».

حين أطقلت «آي بي إم» حاسوبها الشخصي، كان من السهل عليها أن تجعله في حزمة واحدة مع برنامج تشغيل خاص بها، وبهذا احتفظت بهيمنتها. ولكن خشية أن تتهمها السلطات الأميركية بمحاولة السيطرة على سوق جديدة، قررت شركة «آي بي إم» أن تترك نظام DOS لتشغيل الحواسب الشخصية الجديدة لشركة جديدة صغيرة لم ير أي شخص آنذاك أنها قد تشكل تهديداً: وهي شركة «مايكروسوفت».

لا شك أن «مايكروسوفت» تعرضت من جهتها لمتاعب قانونية حين استولت على الوضع المهيمن الذي كان لشركة «آي بي إم» سابقاً، فانهمكت في دعاوى قانونية مطولة على كل من جانبي الأطلنطي. ولقد بدأ الاتحاد الأوروبي، الذي احتذى بنموذج قانون المنافسة في الولايات المتحدة، باتخاذ الإجراءات القانونية ضد شركة «مايكروسوفت» في عام 1993. ولم تبدأ الولايات المتحدة إلا بعد انتصار «مايكروسوفت» في حرب برامج التصفح، بدعوى قضائية بدأت في عام 1998. في مستهل الأمر سارت القضيتان ضد مصلحة «مايكروسوفت» على طول المدى، حيث أصدرت المحكمة في الولايات المتحدة في عام 2000 حكماً يقضي بتفكيك الشركة، إلا أن محكمة الاستئناف نقضت ذلك الحكم فيما بعد.

إن وضع شركة «غوغل» مثير للاهتمام والتشويق الشديد، وذلك لأن الفلسفة القانونية التي تتحدى أي وضع مسيطر، حتى في الصناعة التي يبدو من الطبيعي أن تنشأ الاحتكارات عنها، مازالت قائمة. وكما اتضح من تجربة «آي بي إم»، فإن تأجير البرامج والأجهزة أمر محفوف بالمشاكل، ولكن ذلك ينطبق أيضاً على بيع خدمات الكمبيوتر على أساس مرة واحدة، على غرار ما تفعله شركة «مايكروسوفت». ولكن على النقيض من ذلك، ليس من الممكن تسجيل أي خطأ ضد شركة «غوغل» حين تعرض خدماتها أو منتجاتها بالمجان، ثم تستفيد ببساطة من الإمكانيات الإعلانية الناتجة عن ذلك. إن النموذج الذي تمثله شركة «غوغل» يُـعَد مثالاً دقيقاً لما نستطيع أن نطلق عليه «اقتصاد ما بعد الحداثة». والحقيقة المذهلة في الإبداع الفني تتلخص في الصعوبة التي كان المبدعون، ومازالوا، يواجهونها في الاستفادة من التطورات التكنولوجية الثورية الجذرية. على سبيل المثال، لم يتمكن مصنعو القطن إبان الثورة الصناعة في انجلترا من جمع الكثير من المال، رغم أن منتجاتهم كانت سبباً في إحداث ثورة في الحياة الشخصية للناس وصحتهم العامة، بل وكانت سبباً في إطالة العمر المتوقع للإنسان.

في عصرنا الحالي، أصبح السفر جواً أرخص كثيراً، ولكن شركات الطيران تتعرض للخسارة؛ وأصبح الهاتف في متناول كل إنسان، إلا أن شركات الاتصالات خسرت ثروات طائلة بسبب مبالغتها في المزايدة على حقوق الهاتف الجوال. أما «غوغل» فقد ذهبت بمنطق تكنولوجيا الخسارة إلى ذروته القصوى حين قررت ألا تتقاضى أي أجر عن تقديم خدماتها ومنتجاتها.

* هارولد جيمس | Harold James ، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية بجامعة برنستون، وأستاذ بمعهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top