الكويت من الدولة إلى الإمارة - الدكتور أحمد الخطيب يتذكر - الجزء الثاني (15)
أبدى الشيخ صباح السالم منذ توليه الحكم اهتماماً شديداً بالأيتام وكان يزورهم وأنشأ لهم دار رعاية تضاهي أي مؤسسة في العالم
إهداء إلى شابات وشبّان الكويت الذين يعملون على إعادة الكويت إلى دورها الريادي في المنطقة.
إلى أولئك الذين يسعون إلى بناء مجتمع ينعم فيه المواطن بالحرية والمساواة تحت سقف قانون واحد يسري على الجميع، ويكون هدفه إطلاق إبداعات أبنائه وليس تقييدها باسم المحافظة على عادات وتقاليد هي جاهلية في طبيعتها ولا تمتّ بصلة إلى الدين ولا إلى ما جبلت عليه الكويت منذ نشأتها من تعلّق بالمشاركة في السلطة، ثم الالتزام بدستور 62 الذي قنن هذه الطبيعة الكويتية. إلى الشابات والشبّان الذين يحلمون بمستقبل مشرق للكويت يعيد دورها الرائد في محيطها، كي تنضم إلى عالم العلم والمعرفة الذي أخذ ينطلق بسرعة هائلة لا مكان فيه للمتخلّفين. إلى هؤلاء جميعاً أهدي هذا الكتاب. التجنيس في أواخر أيام مجلس الأمة الأول أثير جدلٌ كبير بشأن التوسع في إعطاء الجنسية من الدرجة الثانية، مما اضطر سعود العبدالرزاق وكان رئيسا للجنة الجنسية إلى أن يدلي بتصريح للمجلس يقول فيه إن اللجنة قد توسعت كثيرا في تلبية طلبات التجنيس مما تعدّى المقبول، فقرر المجلس بإجماع أعضائه التوقف عن إعطاء الجنسية من الدرجة الثانية وإقفال هذا الملف. إلا أن النظام قرأ في نتائج الانتخابات عام 1967 مؤشرات خطيرة في القوى المصرّة على تطبيق الدستور واعتبرها انتقاصاً لهيمنته على الوضع، وأنه من الصعب عليه أن يزوّر الانتخابات كل مرة. وهنا تفتحت القريحة لفتح باب التجنيس بالتأسيس- حق الترشيح والانتخاب لأعداد كافية للإخلال بالمعادلة الموجودة، وكانت نتائج ذلك واضحة في الانتخابات في أوائل السبعينيات، واحتل أمراء من هذه القبائل مقاعدهم في مجلس الأمة، لكن الوعي عند أبنائهم الذين درسوا ونالوا الشهادات العالية والتربية الوطنية الحقة التي وفرها نظام التعلم الوطني حينئذ غيّر المعادلة لمصلحة العمل الوطني الديمقراطي، ورأينا هؤلاء الأمراء يسقطون في الانتخابات القبلية الفرعية ويحتل هذا الجيل من المتعلمين أماكنه في مجالس الأمة اللاحقة. وأصبح جزءاً فاعلاً في العمل الوطني الديمقراطي. وما رجوع هذه العصبية أخيرا إلا نتيجة طبيعية للشلل الذي أصاب الحكم وغياب سلطة القانون والمساواة بين المواطنين، وإنهاء دور وزارة التعليم في التربية الوطنية وتسليم هذا الدور للقوى الدينية، ففقدت الحكومة هيبتها، وتم إفساد مجلس الأمة وشلّه عن القيام بواجبه مما سهّل للقوى الموجودة على الساحة تعبئة هذا الفراغ، وذلك أدى إلى الفوضى والمحسوبية وسلطة المال وظهور قوى عائلية وقبلية وطائفية ومالية على الساحة كما ذكرنا سابقاً. ولا شك في أن عودة الحكم واحترام الدستور والقوانين والمساواة بين المواطنين وعودة التربية الوطنية في المدارس سيكون العلاج لهذه الانقسامات الخطيرة التي يتعرض لها هذا الوطن. الخطورة تكمن في معالجة هذا الموضوع بشكل عاطفي غير عقلاني مما يؤدي إلى انقسام في البلد ونشوء صراع بين هذه القوى القبلية وغيرها، وتستغل الأطراف الانتهازية هذا الخلاف فتؤججه وتحوّله إلى صراع قاتل ترتاح له بعض أطراف النظام لتناغمه مع مفهومها «فرّق تسد»، غير عابئة بأن هذا يشكل خطراً على الوطن كله. البدون الظروف المعيشية الصعبة في الدول المجاورة تسببت في هجرة كبيرة إلى الكويت. وتضخم عدد المسجلين كبدون إلى حد مبالغ فيه، مما أضر بآخرين يستحقون الإقامة في الكويت والنظر في أوضاعهم. فمثلاً كان عدد البدون المسجلون قبل الاحتلال (222000) ولا يوجد في الكويت بادية يمكن أن يكون فيها هذا العدد. لذلك نرى أن عددهم تقلص إلى (120000) بعد التحرير أي أن (102000) لم يعودوا إلى الكويت وفضلوا العودة للإقامة في بلدانهم الأصلية. وعدد البدون الآن هو نحو (90000). ولا شك في أن الأحوال الصعبة التي يمرون بها تجعل هذا العدد يتقلص، كما أن تحسن الأوضاع المعيشية في الدول المجاورة ساعد على الهجرة المضادة. في مجلس (75) قدّمنا قانوناً يعطي أبناء البدون ممّن ولدوا في الكويت واجتازوا مرحلة التوجيهي في مدارس الكويت الجنسية الكويتية وتمّت الموافقة عليه، لكن الحكومة تباطأت في تنفيذ القانون وأعطي قليلون منهم الجنسية الكويتية وبعد حل المجلس عام 1976 ألغت الحكومة هذا القانون للأسف الشديد. وفي مجلس 1992 استدعت لجنة حقوق الإنسان البرلمانية وزير الداخلية الكويتي علي صباح السالم، وبحثت معه هذا الموضوع من الناحية الإنسانية، واقترحت أن يُعطى هؤلاء جميعاً حق الإقامة حتى يبتّ في أمرهم كي يستطيعوا أن يعيشوا بكرامة من دون مضايقة ويسمح لهم بالعمل والزواج لأن اللجنة سمحت لهؤلاء بالتظلم أمامها، لكن هذا الاقتراح رُفض بشدّة، وكانت الحكومة تنفذ سياسة المضايقة الشديدة لهم حتى تجبرهم على ترك الكويت. كل هذه الظروف جعلت المستحقين للجنسية يدفعون ثمن هذا الوضع غير الواضح ويتعرضون للابتزاز الانتخابي من البعض. كذلك فقد تسبب ذلك في خسارتنا لأصحاب كفاءات علمية وفنية ممتازة توفرّت لهم الظروف كي يتعلموا ويبدعوا وصرفنا على ذلك الكثير، ثم بسبب موضوع جنسيتهم قدمناهم هدية إلى دول أخرى لتستفيد منهم مع أننا بأمس الحاجة إليهم. الأيتام كان هؤلاء يعاملون بشكل إجرامي تحت رعاية وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وعندما تولّى صباح السالم الصباح الحكم أبدى اهتماماً شديداً بهؤلاء. وروى لي وزير الدولة حينئذ عبدالعزيز حسين أن ذلك كان هو الموضوع الوحيد الذي أصرّ صباح السالم الصباح على ملاحقة الحكومة من أجله، وذلك لإصدار قانون يعطيهم الحق في الحصول على الجنسية الكويتية، وكان يزورهم في مقرّهم بانتظام وخصوصاً في الأعياد، وأنشأ لهم دار رعاية تضاهي أية مؤسسة في العالم. وفي مجلس (75) عدّلنا القانون لإعطائهم حق الجنسية بالتأسيس. كذلك أردت أن أجنّبهم الصدمة النفسية التي تلحق بمن يُتبنى منهم عندما يموت المتبني ويحرموا من الإرث، لأنهم عندئذ يعلمون أنهم أيتام لا أبناء. ولأن هذا الموضوع تحكمه الشريعة الإسلامية استنجدت بالخبير الدستوري خليل عثمان وقلت له: «لا بدّ أن يكون في الشريعة الإسلامية السمحة حلٌّ لهذه المسألة الإنسانية». فقال: «أعطني أسبوعاً للجواب». وبعد أسبوع قال: «وجدت لك الحل. وهو يقع تحت ما يسمّى «الإقرار بالنسب» وهو أن الوالد المتبني يذهب إلى المحكمة ويقول إن هذا ابني بملء إرادته فيسجل ذلك». كم فرحت بذلك. ولكن فرحتي لم تكتمل فقد حُلّ المجلس، بل أكثر من ذلك، فإن القانون الذي أصدرناه بإعطائهم الجنسية بالتأسيس قد أُلغي فوراً بعد وفاة صباح السالم الصباح الذي كان الأب الحقيقي لهؤلاء الأيتام. مشكلة الإسكان وكيف واجهناها توفير السكن لذوي الدخل المحدود مشكلة مزمنة في الكويت، وتشكّل همّاً حقيقياً لأغلبية الكويتيين، لذلك فإن الرابطة الكويتية عندما تشكلت عام 1957 واجهت أول ما واجهت مشكلة السكن، فأعدّت دراسة كانت هي أول دراسة تنجزها ونشرت في كتيب صغير ليطلع عليه المسؤولون والمواطنون. ومع أن هذا الموضوع أثير في المجالس النيابية المتعاقبة، فإنه لم يلقَ الاهتمام الذي يستحقّه من الحكومة. فهموم المواطن العادي ليست من أولويات الذين يمسكون بالسلطة لأن الموضوع لا يمسهم، فأوضاعهم المالية والاجتماعية تساعدهم على حل جميع مشاكلهم الإسكانية والمعيشية والصحية وغيرها. ففي مجلس 1975 وعندما كنت رئيساً للجنة الصحة والشؤون الاجتماعية رأيت أنه لابد من تقديم حل جذري لهذه المشكلة. فطلبنا لقاء مع الوزير المسؤول عن الإسكان حينئذ، وكان وزير الشؤون الاجتماعية والعمل، فحضر جلسة اللجنة، وقلنا له: «أعطنا فكرة عن حجم المشكلة»، فقال: «عندنا 20 ألف طلب ونحن نبني ألف بيت في السنة، ومعنى ذلك أن الشخص بحاجة إلى الانتظار عشرين سنة حتى يأتي دوره، ولكن إذا استمررنا على هذا النهج مع العدد المتزايد للسكان غير الطبيعي فإن مدة الانتظار ستكون أكثر من 20 سنة». وعندما سألناه عن سبب المشكلة، قال: «نحن مقيدون بجهات حكومية أخرى، فالبلدية تتأخر في إعطائنا الأراضي اللازمة، وحتى بعد إقرار المواقع فهي تنتظر أن يأتي دورها بالتثمين. ونحن مطالبون بأن نأخذ موافقة لجنة المناقصات العامة -وهذه دورة مركب- يعني معطلة لأن أمامها أعمالا كثيرة، وكذلك ديوان المحاسبة الذي يجب أن يوافق على مشاريعنا أولا ويحاسبنا بعد التنفيذ». فقلت: «إذا ساعدناك على حل كل هذه المسائل فهل تستطيع أن تنجز ما هو مطلوب خلال خمس سنوات وبعدها توفر السكن الكافي للمتقدمين سنوياً؟ بمعنى أن مقدم الطلب يتسلّم بيته بعد سنة واحدة من تقديم طلبه»، فأجاب: «نعم». فقلت له: «سوف نعدل قانون الإسكان ونحرركم من لجنة المناقصات العامة. وديوان المحاسبة يقوم بالتدقيق بعد انتهاء المشروع. كما سنرصد لكم ألف مليون دينار للبناء ولتثمين الأراضي التي تحتاجون إليها، بمعنى انه فور أن تخصص البلدية لكم أرضاً تقومون أنتم بتثمينها وتدفعون القيمة وتُرجع لكم البلدية المبلغ عندما تحصل عليه من الحكومة». فأكد الوزير أنه إذا اعتُمِد هذا الأمر نستطيع حل هذه المشكلة خلال خمس سنوات. شكرناه على موقفه وعدلنا قانون الإسكان وأقررناه في اللجنة وعرضناه على المجلس. وعندما حددت الجلسة لمناقشته قال لي الوزير: «إن الحكومة لن تساعدكم على تمرير هذا القانون في المجلس لأن ذلك مستحيل. كما أنني كوزير مختص لن أحضر الجلسة وعليكم أنتم إقناع المجلس بذلك». فقلت: «لا بأس، نحن سنقوم بذلك». عندما طرحت مشروع القانون في المجلس أثار عاصفة من الاحتجاج لأن الأغلبية اعتقدت أن المشروع يسهل السرقة للحرامية. وأذكر أن الأخ جاسم القطامي قال لي: «يا دكتور، نحن بالرغم من وجود لجنة المناقصات وديوان المحاسبة نعاني «الحرمنة»، فما الذي سيحصل لو رفعنا الرقابة عنهم؟» فرددت قائلاً: «يا أبو محمد أنا أعلم بأن الحرمنة موجودة ولا يمكن القضاء عليها، لكنني أقول إنني أشعر بالألم الشديد عندما أواجه بعض المتقدمين بالسن ويقولون لي يا دكتور أمنيتنا في هذه الدنيا أن يكون لنا بيت يضمّ الأسرة قبل وفاتنا، وهذه الأمنية -إضافة إلى أنها حق لكل إنسان- هي حق علينا لكل مواطن، خصوصا أننا في بلد قادر. ولا بد لي أن أسعى لأوفّر لهؤلاء المسكن مهما كان الثمن». لقد كان كلامي مؤثراً مما حمل أعضاء المجلس على الموافقة على المشروع. عندئذ ذهبت إلى الاستراحة حيث يجلس الوزير المعني وبشّرته بنجاح المشروع لم يصدق ذلك إلا بعد أن رجع إلى قاعة المجلس ليتأكد من كلامي. لكن هل انتهت المشكلة؟ لا لأن قائمة المنتظرين الآن بلغت 60 ألفاً، أي ثلاثة أضعاف العدد الذي كان عام 1975. لماذا؟ هل بسبب السرقة؟ لا أظن أن هذا هو السبب الوحيد. فهناك أراض كثيرة تملكها الدولة لا تحتاج إلى تثمين أصلا. لكن توضع أعذار وهمية كثيرة. كأن يقال إن الأراضي محتجزة من قبل شركات النفط، أو إن وزارة الدفاع بحاجة إليها، أو أسباب أمنية. ولا أحد يذكر السبب الحقيقي. وهو أن أصحاب الأراضي الكبيرة هم من المسؤولين الكبار والمتنفذين الكبار. وحل مشكلة الإسكان يسبب كساداً في سوق الأراضي، وتفاقم المشكلة يؤدي إلى ارتفاع جنوني في الأسعار كما نشاهد الآن. القوى المتنفذة لا تريد حل هذه المشكلة ولا يهمّها عذاب عدد كبير من المواطنين. الآن حتى الذين دخولهم عالية كالوزراء لا يستطيعون شراء قسيمة ويبنونها. نعم هناك جماعات أقوى من الوزراء يسيّرون البلد وفق مصالحهم ضاربين عُرْضَ الحائط بحق المواطن في السكن الذي كفله الدستور. مسجد شعبان في عام 1968 قررت بريطانيا سحب قواتها من منطقة الخليج العربي بسبب تدهور وضعها الدولي ومشاكلها المالية، مما يعني التخلّي عن حماية الأنظمة القائمة بشكل مباشر لأنها تعتمد على الحكومة البريطانية لحماية أنظمتها المتخلفة. وقد حاول البعض بغباء دعوة بريطانيا إلى البقاء على أن يتحملوا هم الأعباء المالية، وهذا يحوّل القوات البريطانية إلى قوات مرتزقة، فرفضت بريطانيا هذا العرض لوقاحته. هنا أعلن شاه إيران أن إيران ستكون البديل لبريطانيا في حماية الأمن في الخليج، مما أثار الرعب في الأنظمة الخليجية وكذلك في شعوبها لعلمها بأطماع الشاه ورغبته في السيطرة ومطالبته بالبحرين. هذا الوضع المتأزم جعل جريدة الـ The Christian Science Monitor الأميركية تطلب من مراسلها في بيروت أن يزور المنطقة ليكتشف جدية هذا الموقف، أو بالأحرى التهديد الإيراني. ذهب هذا المراسل إلى طهران مباشرة وبعدئذ جاء إلى الكويت وطلب مقابلتي تلبية لتوصية من صديق له في بيروت هو المرحوم غسان كنفاني رئيس تحرير مجلة الحرية الناطقة باسم حركة القوميين العرب، والمعروف عن هذه الجريدة اليومية الأميركية أنها من الجرائد القليلة غير الخاضعة للصهاينة. سألني عن رأيي في التهديدات الإيرانية فقلت له: «أنت قادم من إيران ولا بدّ أنك اطلعت على ما يقولون». فقال لي إنه اجتمع بكثيرين ومنهم سكرتير حلف السنتو (حلف بغداد سابقاً) وهو جنرال إيراني وفاجأني بأنه علاوة على اعتباره أن البحرين جزء من إيران فهو أيضاً يقول إن الكويت كذلك يجب أن تتبع إيران لأن الشيعة فيها يشكلون الأغلبية. فتركيا أرسلت قواتها إلى قبرص لحماية الأتراك هناك مع أنهم أقلية في قبرص ولم يعترض أحد على ذلك فلماذا يُعترَض علينا إن نحن تدخلنا في الكويت لحماية الأكثرية الشيعية! هذا الكلام نزل عليّ كالصاعقة، فالشيعة في الكويت هم كويتيون منذ زمن قديم وأغلبهم من أصول عربية وليسوا أغلبية أيضاً، ما جعلني أدرك خطورة هذه النيات. أمام هذه الخلفية أصبحتُ أراقب طبيعة التجمع الأسبوعي في مسجد شعبان في 1979 -بعد نجاح الثورة الخمينية في إيران- وطرح مشاكل الشيعة في الكويت والتمييز ضدهم في الوظائف العامة ذات الحساسية كالجيش والخارجية والمناصب القيادية كالوزارات والمناصب العليا بالدولة، والتأكيد على نسبتهم في الكويت. هذا الطرح الطائفي استمرّ بعض الوقت من دون أن تحرك الحكومة ساكناً وكأنها مرتاحة لهذا التوجّه الذي يفرّق البلد. العناصر الوطنية الشيعية لم يعجبها هذا الطرح الطائفي، وأمسكت المبادرة وحولت موضوع المطالبة بالحقوق من طرح طائفي إلى طرح وطني يطالب بمعالجة مشاكل البلد العامة كأزمة السكن والبطالة والمساواة بين المواطنين، ووجّه هذا التجمع الدعوة إلى عدد من الوطنيين من السنّة للمشاركة في الحوار. عندئذ تحركت الحكومة وقررت منع التجمع الأسبوعي في مسجد شعبان. توتّر الجو فدُعي إلى اجتماع في المسجد وكان اجتماعاً صاخباً احتجاجاً على هذا المنع. حضرت قوات الأمن وحاصرت المسجد. فأخذت بعض العناصر تؤجج المشاعر وطالبت بتحدي قوات الأمن والخروج إلى الشارع، وطالبت بالتصويت على هذا الاقتراح. هنا أُسقط بيد العناصر الوطنية التي كانت تدير هذا التجمع. كنت في العيادة كالعادة عندما دخل عليّ طالبان من الوسط الديمقراطي في جامعة الكويت وطلبا إليّ أن أتوجّه حالاً إلى المسجد لمنع التظاهر، قلت لهم: «ما مدى قدرتي على منع التظاهرة؟» فقالا لي: «إن لك احتراماً عند الكثيرين من الموجودين في المسجد». هنا تذكرت ما قاله مراسل الجريدة الأميركية عن نوايا ذلك الضابط الإيراني، وقلت لنفسي إن حدث اصطدام وسال الدم فإن هذا سيكون المبرر للتدخل الإيراني في الكويت. ومع أن عهد الشاه قد انتهى فإن المخاوف كانت واردة، فالمطامع القومية لا تتغير بسهولة بتغيّر النظام. والكويت لا تتحمل أية مخاطرة من هذا النوع. ذهبت إلى مسجد شعبان بسرعة وهو قريب من العيادة ووجدته محاطاً بقوات الأمن، وعلمت بأنهم اتخذوا قراراً بالخروج من المجلس للتظاهر. أعلن عريف التجمع وجودي بالمسجد -وهو أحد عناصر الشباب الوطنيين الجامعيين- وطلب إليّ أن أخاطب المحتشدين، فألقيت كلمة مطولة اعترفت فيها أولاً بأن هنالك تمييزاً بالبلد فعلاً يمس الطائفة الشيعية، لكن هذا التمييز لا يخص الشيعة فقط، بل هنالك أغلبية من الكويتيين داخل السور وخارجه من طبقات بسيطة تعاني التمييزَ نفسه في المناصب القيادية كالوزارات وغيرها. ولأن الشيعة أقلية في الكويت فهم لن يحصلوا على أية مكاسب إن تحركوا وحدهم إنما مع الغير سيكونون أغلبية، ولأننا بلد ديمقراطي فإن هذه الأكثرية ستشكل قوة كبيرة في المجلس قادرة على إشاعة العدالة والمساواة في البلد. فحلّ مشاكلنا جميعاً يأتي عن طريق مطالبتنا بالديمقراطية ودستور 62، ونحن ككويتيين نلجأ دائماً إلى الوسائل السلمية ولا نقبل بالعنف، والذين يحرّضون على العنف لا بدّ أنهم يعملون لتنفيذ مخططات غير كويتية تهدد سلامة الكويت مما لا يقبله عاقل. بعد كلمتي هذه تكلم ثلاثة آخرون فأيدوا كلامي وطلبوا التصويت على التظاهرة ولما طلب العريف التصويت لم يجد شخصاً واحدا في المسجد مؤيداً للتظاهر. وهكذا انتهى الاجتماع بسلام. كانت هنالك ميكرفونات خارج المجلس وقد احتشد الكثيرون من الكويتيين خارج المسجد وكذلك قوات كبيرة من الأمن. ولما خرجت من المسجد شكرني ضباط الأمن على تهدئتي للأمور وتجنّب المواجهة. كان جاسم محمد الخرافي حاضراً في سيارته مع بعض الأصدقاء يستمع لما يدور في المسجد، ولما التقيته قال لي: «دكتور، لو أنني وزير الداخلية لوضعت على صدرك وساماً لأنك أنقذت البلد من كارثة»، شكرته وقلت: «أنا أعمل من أجل مصلحة بلدي ولا أريد تكريماً من أحد». لما جاء وقت الانتخابات عام 1981 نشطت الأجهزة المعروفة بإطلاق الإشاعات الباطلة، وركّزت على أن الدكتور الخطيب ذهب إلى مسجد شعبان ليؤيد الشيعة ضد الكويتيين... إلخ. هذه الأسطوانة القذرة انطلت على الكثيرين من السنّة الكويتيين سامحهم الله. حاولت مع الجماعة المسؤولة عن المسجد إعطائي الشريط الذي سجل كلمتي ليعرف الجميع حقيقة موقفي، فلم أوفق. أما الشريط الآخر فهو عند أمن الدولة وبالطبع المسؤولون هناك هم وراء تشويه موقفي فلم أستطع الحصول منهم على نسخة من الشريط. أمام هذه الحملة المسعورة الجائرة توقعت من الصديق جاسم محمد الخرافي أن يقول كلمة الحق التي قالها لي، خصوصا بسبب علاقتي الوطيدة مع والده محمد عبدالمحسن الخرافي، العلاقة الشخصية والعلاقة الوطنية لما قدمه، رحمه الله، من عون للعمل الوطني بالعلانية والسر. لكنه للأسف الشديد لم يفعل. ولن ألومه كثيراً، فلكل شخص ظروفه الخاصة التي تتحكم أحياناً في تصرفاته. وقد علمت أخيرا أنه ووجه بهذا السؤال عند زيارته ديوان سامي المنيّس وقال إنه أخبر وزير الداخلية بذلك، أي منك الخصام وأنت الخصم والحكم. وكأن مشكلتي كانت مع وزير الداخلية! سليمان ماجد الشاهين: الشيخ سعد كان في قمة الإدراك لدقة الموقف علق الوزير السابق سليمان ماجد الشاهين على ما جاء في مذكرات الدكتور احمد الخطيب عن مواقف الشيخ سعد العبدالله قبيل الغزو العراقي وبعده مباشرة، فرأى أن هذه المواقف كانت نابعة من شعور عال بالمسؤولية، وأورد جملة من التفاصيل التي عايشها، داعيا الدكتور الخطيب إلى عدم الاكتفاء بالتأريخ انطلاقا من الذاكرة... وهنا نص التعليق: تابعت مع غيري من المهتمين بسياق تسلسل جريمة الغزو ومحنة الاحتلال العراقي لوطني وفق ما أورده الأخ الدكتور احمد الخطيب في الحلقة الثانية عشرة بعدد «الجريدة» الصادر الاحد 14 من سبتمبر الجاري، واستوقفتني من بين امور اخرى الفقرة التالية: «لقد دعت السعودية الى اجتماع الطرفين في الرياض ولم يكن الشيخ سعد العبدالله مدركا خطورة ما يحدث، ولذلك بعد الاجتماع الساخن مع الوفد العراقي ترك الاجتماع وذهب لأداء مناسك العمرة... ولولا ان الأمير استدعاه للعودة بسرعة لبقي هناك». وباعتباري كنت عضوا في الوفد الذي رافق الشيخ سعد، طيب الله ثراه، بصفتي وكيلا لوزارة الخارجية آنذاك، أبيح لنفسي الحديث عن هذه الجزئية التي عشت دقائقها. فالوفد المرافق تكوّن من سمو الشيخ ناصر المحمد الاحمد الصباح ومعالي ضاري عبدالله العثمان وسعادة طارق عبدالرزاق رزوقي وسعادة خالد محمد المغامس، كما تابع الاجتماعات معالي الأخ عبدالله يعقوب بشارة أمين عام مجلس التعاون في حينه. وبإدراك ووعي تامين بمخاطر المرحلة من قبل القيادة العليا للبلاد ممثلة في صاحب السمو الشيخ جابر وسمو الشيخ سعد، طيب الله ثراهما، وصاحب السمو الشيخ صباح الاحمد الجابر الصباح، حفظه الله، توجه الوفد الى جدة وليس الرياض بتاريخ 31 يوليو 1990 استجابة لدعوة من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد، طيب الله ثراه. فاجتماع جدة لم يكن طارئا، بل له مقدماته التي استنفرت الجميع، قيادة وشعبا، بدءا بخطاب صدام في قمة بغداد 90/5/30 وتصاعدا مع رسالة طارق عزيز الى الامين العام للجامعة العربية بتاريخ 90/7/15، ورسالتي الشيخ صباح، حفظه الله، بصفته نائبا لرئيس الوزراء وزير الخارجية بتاريخ 90/7/18 و90/7/25، ثم رسالته الى الامين العام للامم المتحدة في آخر يوليو من السنة ذاتها وخلال هذه الفترة وصل فخامة الرئيس المصري حسني مبارك الى الكويت قادما من بغداد، كما وصل الملك حسين وياسر عرفات، واستقبل الشيخ سعد في 7/30 الامين العام للجامعة العربية الشاذلي القليبي في الثلاثين من يوليو، وخلال اجتماعهما اتصل به الدكتور عبدالرحمن العوضي من مكتب الرئيس اليمني بصنعاء ينقل اليه رسالة ردا على مهمة كلف بها كباقي المهام التي تحركت بها الكويت سياسيا في حينه، وضمن هذه الاجواء المتوترة كان الشيخ سعد والقيادة العليا في قمة الادراك لعظم المسؤولية ودقة الموقف، وخلال هذه الساعات الرهيبة كانت الكويت بجميع اهلها المخلصين متابعة لدقائق التفاصيل مستشعرة نذر الشر من الشمال. وفي مساء الحادي والثلاثين من يوليو 90 عقد الاجتماع بقصر المؤتمرات بجدة وافتتحه صاحب السمو الملكي الامير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد السعودي، آنذاك ومن كلماته «إن العربي لا يمكن ان يرفع سلاحا في وجه اخيه العربي وان الدم العربي لا يمكن ان يتحول الى ماء مسفوح»، وغادر الاجتماع مفضلا ترك الوفدين للمناقشة المباشرة، متخذا من قصر المؤتمرات مقرا للمتابعة المباشرة، وارجو ألا اخرج عن الموضوع حين اشير الى فحوى الاجتماع باختصار بما يخدم هدف هذا الايضاح، فبينما كان عزة ابراهيم يردد بانه يحضر هذا الاجتماع استجابة لدعوة الملك فهد، وان اي مناقشة يمكن ان تستكمل في بغداد، بالمقابل كان الشيخ يصر على مواصلة الاجتماع ويقترح جلسة ثانية او حتى اجتماعا في جناح عزة ابراهيم الذي يتعلل بالمرض وعدم القدرة على مواصلة الاجتماع، مؤكدا رحمه الله على البت في هذه القضية التي من اجلها يعقد هذا المؤتمر (الاجتماع). وبلغ من حرصه على عدم تفويت اي فرصة اقتراح ان يذهبا معا الى مأدبة الملك مقتنصا لحظات الطريق للحديث في هذا الامر. وفي الساعات الاولى من فجر الحادي من اغسطس كنا معه، رحمه الله، في جناحه يقلب الامور مستعينا بتقاريره التي تصل اليه اولا بأول، ويطرح التساؤلات المتوالية عن مدى حجم ما يمكن ان تسفر عنه الأمور، مستقرئا باحساس المسؤول تعبيرات عزة ابراهيم، وللتاريخ كان معالي الاخ ضاري العثمان أكثرنا تشاؤما وتوقعا بحدوث الاجتياح. واصرارا منه على المتابعة كلفني بمقابلة الدكتور سعدون حمادي لأطرح عليه مجددا فكرة عقد اجتماعات بين بغداد والكويت على التوالي، وان يكون لها اطار محدد لان الموقف لا يحتمل ان يبقى دون اطار يحكم منطلقاته ويلتزم بموجبه الطرفان حتى لا تنزلق الامور الى الأسوأ، واجتمعت مع الدكتور سعدون فجرا بجناحه فردد ما كان يقوله رئيس وفدهم: ان على الوفد الكويتي ان يأتي الى بغداد وبعدها «يصير خير» وفق تعبيره... وعدت الى سموه لأبلغه بالتفاصيل، واذ بالدكتور سعدون يتصل بي ليبلغني رسالة من عزة ابراهيم الى الشيخ سعد يقترح بمضمونها عقد اجتماع يضم كلا من الملك فهد والرئيس حسني مبارك وصدام حسين. ولا مجال لذكر ردي العفوي المباشر على هذا المقترح، وطلبت منه ان يملي علي نص المقترح الذي رفعته لسموه الذي اجاب من دون تردد «لا اجتماع من دون الشيخ جابر». بهذه الرؤية الواضحة كان يقود الاجتماعات. وبعدها تناهى الى الاسماع ضجيج الموكب العراقي مغادرا قصر الضيافة الى العمرة والمدينة المنورة... اذا مناسك العمرة قام بها الوفد العراقي اما الشيخ سعد فتهيأ للعودة العاجلة الى الكويت التي وصلنا اليها بعد ساعات. ملاحظة هامشية: باتصال مع السفيرة الاميركية ابريل غلاسبي تم بيني وبينها في منتصف سبتمبر 1993 مستوضحا منها بعض القضايا التي اود توثيقها ذكرت لي أن حدس الشيخ سعد في عدم الموافقة على الذهاب الى بغداد من دون اطار متفق عليه كان في محله، فقلت لها: وهل نقلت الجهات المعنية في الولايات المتحدة هذا الهاجس الى مثيلتها في الكويت؟ اجابت بأن الامر لم يستدع الابلاغ طالما ان المقترح العراقي لم يجد طريقه الى التنفيذ! لا أورد هذه المواقف عبثا، فكل من اقترب منه يعلم كيفية انشغاله بتفاصيل التفاصيل عن كل ما يعرض عليه من امور فكيف والامر بحدث كمصير الكويت، على اي حال هذا الادراك ملازم له في كل لحظات حياته ومن بينها بعض ملامح فكره ومسؤولياته عن الاعداد لخطوات التحرير، واجتزئ مما سطرته في الحادي عشر من يونيو المنصرم في «القبس» الغراء بعنوان الأمير الوالد حي في ذاكرة الكويت: عرف الفقيد بشفافية البعد الانساني لديه وهذه المشاعر النبيلة لا يفقدها حتى في الظروف التي تلزم التغاضي عنها لمصلحة يمكن ان تتقدم على اي مشاعر اخرى... لان الامر لديه طبع لا تطبع، ويتسامى هذا الاحساس بحامله الى شمولية مطلقة تغطي بصدقها الوطن والمواطنين. ...وأسجل هنا ما سمعته منه بدقائقه وأرويه لأول مرة، ففي ديسمبر من عام 1990 كان ممثل قوات التحالف Forward Headquarter,s Central Command يحيط فقيدنا بالخطوط العريضة لمسرح تنفيذ عملية التحرير المعروفة بـ«عاصفة الصحراء» التي انطلقت في منتصف يناير 1991 ومن بين تفاصيلها تدمير الجسور المقامة على الطرق الدائرية السبعة كي تعيق تحرك القوات الغازية وتحصرها في مواقعها ليسهل تدميرها، فاعترض فقيدنا على ضرب الجسور، اذ ستلجأ الفلل العراقية التي يزيد عددها على المائة والخمسين الفا الى بيوت المواطنين، وهنا ستحدث المجزرة بين المدنيين سواء نتيجة القصف الجوي او المقاومة او الالتحام عند الاقتحام. وبالفعل اخذت ملاحظته الحكيمة بعين الاعتبار، اذ تم استدراج العدو الى خارج التجمعات المدنية، حيث ابيدوا بشرا وآليات على طريق الموت المعروف عند خانق المطلاع. وتقصيا للمزيد من الدقة والتوثيق اتصلت في الخامس من يونيو الماضي بالصديق الذي احبته الكويت واحبها السفير ادوارد غنيم، فأكد الموقف بتفاصيله مضيفا ملاحظات اخرى اتركها لمناسبتها. وأخيرا يبقى الأخ الدكتور أحمد الخطيب الذي نعتز جميعا بالكثير من مواقفه معينا لا ينضب لكل نقاش، غير ان الذاكرة وحدها لا تغني عن التوثيق الذي يفترض ان يتم في حينه... وكان الأحرى انعاش الذاكرة بالعودة الى الوثائق كي يستقيم التاريخ الذي نملكه جميعا وهو ارثنا لأجيالنا. ولله الأمر من قبل ومن بعد. سليمان ماجد الشاهين غداً: تجمعات الاثنين