مرت الرؤية الفكرية لفنان السينما المصرية والعربية المخرج الراحل يوسف شاهين بمراحل عدة، منذ بدأ عمله في السينما وإخراجه الأفلام التي تجاوزت الأربعين، مع انتصاف القرن العشرين (فيلمه الأول «بابا أمين» أخرجه عام 1950 وكان في الرابعة والعشرين من العمر). ليست وحدها الآراء في أفلامه التي تؤكد مرور شاهين بتلك المراحل، وإنما حواراته وحديثه المباشر عن نفسه في مرات كثيرة أيضاً.

Ad

كان يتحدّث عن المرحلة الأولى عادةً، باعتبارها مرحلة لم يتعمق فيها وعيه السياسي، وهي تشمل الخمسينات ومعظم الستينات ربما حتى نكسة عام 1967، ومن أقواله المشهورة - التي كررها في أكثر من حديث بأكثر من تعبير لكن بالمعنى نفسه تماماً قوله: «تعلمت أثناء صنعي الأفلام وليس قبلها، وأعني بالتعلّم معرفة الطريق الصحيح، أي أني لم أبدأ إخراج الأفلام وأنا أمتلك تلك المعرفة، إنما أخذت أحصل عليها خلال عملي. أما المخرج الذي سبقنا في هذا بوضوح فهو توفيق صالح، فقد كان يمتلك وجهة النظر المحددة والمعرفة والوعي السياسي حتى من قبل أن يخرج أول أفلامه».

كان شاهين «يبالغ» أحياناً حين يتحدث عن محدودية وعيه السياسي في تلك المرحلة، كأن يقول إنه لم يكن يعرف ما هي الجزائر ولا أين تقع على الخريطة؟!.. وذلك حينما رشحه عز الدين ذو الفقار، الذي يقدره شاهين كثيراً ويذكره دائماً بالاعتداد والاحترام، لإخراج فيلم «جميلة الجزائرية» (1958) ثم إخراج فيلم «الناصر صلاح الدين» (1962).

كانت يبالغ ليدل على أن تركيزه واهتمامه لم يكونا منصبّين على القضايا السياسية، لكن الصحيح أيضاً، وما لا يتعارض مع ذلك، أن حسّه الوطني وأيضاً الاجتماعي كان موجوداً.

بل إنه أخرج قبل «جميلة الجزائرية» فيلم «صراع في الوادي» (1954)، وقبل «الناصر صلاح الدين» فيلم «باب الحديد» (1958)، وفي هذين الفيلمين حس اجتماعي واضح، وليس معقولاً أن ينشأ ويُعبَّر عنه في الفيلمين من فراغ، خصوصاً بمثل قوة التعبير عن مأساة أوضاع الشعب في القضية الاجتماعية قبل الثورة على نحو ما رأينا في «صراع في الوادي»، وعن قضية ضرورة إنشاء نقابة تحمي العمال ومصالحهم وتنال حقوقهم، العمال كلهم وفي أي موقع لهم، على نحو ما رأينا في «باب الحديد».

شعر شاهين ابتداء من «الأرض» (1970)، و«الاختيار» (1971)، و«العصفور» (1972) بأن رؤيته منذ الآن يجب أن تكون رؤية نقدية. ذلك بقدر الصدمة والوعي الجديدين والرغبة المخلصة الحارّة في تجاوز الصدمة والهزيمة، وفي الانتقال بالبلاد إلى آفاق جديدة.

بلغت الرؤية النقدية لشاهين أوجّها وعبّر عنها بنضوج كبير في فيلم «عودة الابن الضال» (1976).

كانت الرؤية النقدية التي عبّر عنها هذا الفيلم، خلاصة رؤية شاهين، التي وصل إليها بعد معاناة وكبد، وفي الوقت ذاته كانت هي رؤية صلاح جاهين، الشاعر والرسام الذي عبّر عن جوهر مشروع النهضة الوطني كما لم يعبر شاعر أو رسام آخر.

مضى فيلم «عودة الابن الضال» في محاولة لتحليل نموذج ابن المرحلة أو الممثل لها، وللبناء الشاهق فيها «علي المدبولي» (أداه أحمد محرز)، بالتعثرات كلّها التي واجهت عملية البناء ثم مدى الانهيارات والنتيجة الصادمة، وأن هذا الفتى الممثل للمرحلة «علي» حاول وتطلع وطمح فيها، لكن المرحلة الجديدة التي بات يمثلها أخاه «طلبة المدبولي» (أداه شكري سرحان)، تتطلب الآن جيلاً وأفقاً جديدين ومحاولة متطورة بقدر ما هي بالغة الصعوبة والقسوة (تمثل هذا الجيل في نموذجي ماجدة الرومي وهشام سليم).

«إيه العمل في الوقت ده يا صديق

غير إننا عند افتراق الطريق

نبص قدامنا

على شمس أحلامنا

نلقاها بتشق السحاب الغميق».

من جهة أخرى، حقق شاهين في هذا الفيلم حلمه بإنجاز فيلم موسيقي، يجسد فيه تأملاته الفكرية من خلال الموسيقى والغناء، فأطلق على فيلمه «مأساة موسيقية». كان شاهين يحب أن يعبّر عن نفسه دائماً، كفنان، بل أيضاً كإنسان بالموسيقى والرقص. كان يهوى كليهما بشدة، لكن هوايته هنا، وهذا ما لا يعرفه كثيرون، بمستوى محترف حقيقي بالغ الرقي والدراية والمهارة (خصوصاً مجموعة الأفلام المميزة الممتعة عن يوسف شاهين للمخرجة منى الغندور وبينها مشاهد مدهشة عنه راقصاً وموسيقياً).