قبل بضعة أسابيع، صدر عن منشورات «جون بليك» في لندن، كتاب بعنوان «تنازل تام»، من تأليف «ديف شارب».

Ad

وديف شارب هو «بنّاء» من سكّان جنوب أوكسفوردشاير، والمادة الأساسية التي ضمّتها الفصول الثلاثة والعشرون من كتابه انعقدت على وقائع سيرته الشخصية التي كان يمكن أن تكون مجرد سيرة عادية لرجل عادي، لولا ما تضمنته من وقائع غريبة تتصل بسر كبير ومثير في حياته وحياة آخرين لم يخطر في باله يوما أن تكون له أي صلة بهم.

ومما زاد الكتاب تميزاً وإثارة هو أن الروائي البريطاني الشهير «إيان ماكيوان» قد كتب له مقدّمة ضافية تتّسم بالعاطفة الحارة.

وعنصر الاثارة في هذا الأمر لا يتمثل في كتابه تلك المقدمة، إذ ليس جديدا ولا غريبا أن يتولى كاتب مشهور تقديم كتاب لمؤلف مغمور، لكن المثير هو أن «ماكيون» نفسه يظهر، بشكل غير متوقّع، واحداً من الشخصيات المهمة في أثناء تلك السيرة.

ولذلك فإن ما يُغبط عليه هو أنه استطاع أن يكتب تلك المقدمة بأسلوب أدبي أنيق ومحايد، على الرغم مما يحمله موضوع الكتاب من مفاجأة صادمة إلى حد الفجيعة بالنسبة إليه شخصيا!

يقول ماكيوان: في شتاء عام 1942، كانت امرأة جميلة في منتصف العشرينات من عمرها، قد ركبت القطار من مدينة «ألدر شوت» حاملة رضيعها البالغ من العمر ستة أسابيع، وبصحبتها أختها الأصغر وهي تحمل صرّة ملابس الرضيع.

كانت مهمة الاثنتين بسيطة وخطيرة وغير قانونية في الوقت نفسه: كان عليهما أن تقطعا رحلة تمتد نصف ساعة أو نحو ذلك، لتصلا إلى محطة «ردينغ»، وهناك، على رصيف المحطة، وكما جرى الاتفاق، كان عليهما تسليم الرضيع مع شهادة ميلاده المزيفة، إلى رجل وامرأة غريبين عنها تماماً!

ونحن نعلم أن الأختين الملفعتين بالحزن، قد عادتا إلى منزلهما مباشرة ،بعد إنجاز تلك المهمة.

وعند هذه النقطة، تبدو الأحكام الأخلاقية غير ذات معنى، ذلك لأن الأم الشابة كان تتحاول أن تحل ما كان يبدو بالتأكيد معضلة بالغة الصعوبة، وهي، في أقل من المدة المحددة، قد نجحت في حلّها، إذ لم يسمع أيما خبر عن ذلك الرضيع.. إلا بعد ستين عاما!

ويختم ماكيوان هذه الفقرة من مقدمته بالقول: إن اسم المرأة الشابة كان «روز وورت»، أما الرضيع الذي تخلت عنه وتركته لقدره، فهو شقيقي الأكبر «ديفيد»!

ويضيف: لكي يمكن فهم هذه الحادثة الشخصية المؤلمة بالكامل، فإن الامر كان يحتاج إلى جميع مصادر القدرة الآلهية، فمنذ تلك اللحظة التي وضع فيها الرضيع بين يدي تلك المرأة الشابة التي تدعي «روز» أيضا، وزوجها «بيرسي شارب»، عملت شبكة معقّدة من القوى والأسباب المفرطة التركيز على فرض كتمان كامل على هذه الحكاية.

ولم تكن طبيعة الاضطراب العاطفي لروز وورت، في ذلك الحين، لتعرف بدقة إلا التخمين، لكن ما نعرفه حقا هو أن الأمر جرى في ذروة كارثة الحرب العالمية الثانية، التي كان من نتائجها أنّها حكمت وغيّرت حياة جميع الناس.

تلك الحرب أخذت من «روز» زوجها ووالد طفليها «إرنست وورت»، وحوّلته إلى واحد من جنود المشاة المطلوبين للقتال في جبهة شمال إفريقيا، وفي اثناء غيابه الطويل هناك، نشأت «علاقة» بين روز والعريف ديفيد ماكيوان الذي كان قد أصيب في معركة دنكيرك عام 1940، فأخرجته إصابته تلك من عداد المقاتلين.

وفي النهاية فإن الحرب انتزعت إرنست من حياة روز إلى الأبد، بعد أن أصيب بجراح مميتة أودت به في عام 1944، وعقب ذلك بثلاثة أعوام أمكنها أن تتزوج «ديفيد ماكيوان» شرعياً، ليولد ابنهما «إيان» في العام التالي... أي بعد ستة أعوام على تخلّصهما من ثمرة علاقتهما غير الشرعية.

من الواضح أن العاشقين وجدا، في ذلك الوقت المبكر، أن عليهما أن يخفيا إلى الأبد «الدليل الحيّ» على علاقتهما الآثمة، فبالرغم من الحياة القاسية التي كانت «روز» تعانيها مع طفليها، في مواجهة ظروف وأعباء الحرب وحيدة، بعد أن اختفى زوجها لمدة طويلة، تاركا إياها دون دعم، ودون أي خبر عنه، فإن ما اقترفته، في ذلك الوقت، كان يعد أمراً منكرا جدا، وتصرفا متسما بانعدام الوطنية.

لقد كانت «روز» مرعوبة من فكرة عودة «إرنست» ومواجهة الكارثة المحتومة، فالطفل الذي أنجبته خارج نطاق الزواج هو «نغل» أو «لقيط»، وذلك أمر قد لا يعني شيئا بالنسبة لشبّان بريطانيا هذه الأيام، بعد أن فقد هذا المصطلح، خلال جيلين، معناه وتأثيره غير العاديين، لكنه كان أمرا بشعا بالنسبة لمنظومة القيم الاجتماعية البريطانية حينذاك.

ولهذا فقد كان من الضروري اتخاذ السرية الكاملة لإخفاء أمر الحمل وميلاد الطفل عن الجيران والأهل، وعن الطفلين على وجه الخصوص، وعليه فقد تم التخلص منهما بسرعة، إذ أرسل «جيم» الذي كان في السابعة من عمره، لقضاء طفولته كلها لدى جدّته لأبيه، فيما أرسلت أخته «مارغي» وهي في الخامسة، للعيش في مؤسسة اجتماعية خاصّة برعاية بنات الجنود المحاربين، حيث كادت تلقى حتفها هناك بسبب اهمال معالجتها اثناء مرضها!

بطريقة أو بأخرى، تم إرسال جميع أبناء «روز» بعيداً، وفي أغلب هذه الحالات كان «ديفيد شارب» وحده، فهو قد أنفق أعواما طويلة في البحث والتنقيب من اجل التوصل إلى معرفة أبويه الحقيقيين، بعد أن علم، خلال مراهقته،أنه مُتبنَّى من قبل أسرة «شارب».

ولهذا فإن ديفيد قد عكف على تأليف الكتاب بنفسه، مستعينا بخبرة الكاتب المحترف جون بيكر، وذلك لأنه وحده الملم بقصة حياته الخاصة وتفاصيل بحثه الطويل والمعقد الذي قاده في النهاية، وهو على أعتاب الستين، إلى التعرف على شقيقه «إيان»، وإلى الالتقاء بوالدته الأصلية «روز وورت» قبيل وفاتها بفترة قصيرة.

ومن يدري.. فلعلّ «روز» في شيخوختها المتأخرة، حيث أكل مرض الزهايمر ذاكرتها تماماً، لم تكن قد أدركت، على وجه اليقين، أن هذا الرجل الأشيب الودود الذي جاء إلى زيارتها في عام 2002، هو ابنها المسكين الذي أعطته، قبل ستين عاما، على رصيف محطّة «ردينغ» كهدية لأناس غرباء!

العنوان الرئيس للكتاب مقتطف حرفياً من الاعلان المبوب الصغير جدا الذي نشره العريف ماكيوان وزوجته اللاحقة روز، في إحدى الصحف المحلية عام 1942، وصيغته هي التالية: «مطلوب مأوى لرضيع ذكر وعمره شهر واحد: تنازل تام»!

عبارة من تسع كلمات لا أكثر، ضمن إعلان ضائع في صحيفة محلية مغمورة، قررت مصير إنسان، وألجأته بعد ستين عاما، إلى الاعتماد عليها لاستخلاص عنوان الوثيقة الكاشفة لسرّ حياته الكبير!

في مقدمته، يتذكر إيان ماكيوان أنه في السنوات الأخيرة من حياة والده، كان يطرح عليه أسئلة كثيرة تشبه الاستجوابات الصحفية، وكان يندهش كثيرا لشعور والده بالضيق والحرج وحتى الغضب، عندما يسأله عن ظروف تعرفه بوالدته، أو عن علاقة الحب بينهما.

ويبدو أن دهشة ماكيوان قد تبدّدت الآن، بعد انكشاف حكاية شقيقه المفقود، لكنها أخلت مكانها لدهشة أشد اتّساعا وأقوى أثراً.

وإنه لمن سخريات القدر أن يكتشف روائي موهوب تدور بعض رواياته حول موضوع أبناء تخلى عنهم أهلهم، أو أبناء اختفوا من حياة أسرهم في ظروف غامضة، أن في حياة أسرته نفسها سراً صاعقاً كهذا تكاد تتضاءل أمام خطوطه الواقعية أقوى حبكات خياله الروائي!

* شاعر عراقي

- تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية.