الكويت من الدولة إلى الإمارة - الدكتور أحمد الخطيب يتذكر - الجزء الثاني (18)
أوقف الشيخ عبدالله السالم نشر بيان للتنديد بخروتشوف وقال لا داعي للتصعيد
إهداء إلى شابات وشبّان الكويت الذين يعملون على إعادة الكويت إلى دورها الريادي في المنطقة. إلى أولئك الذين يسعون إلى بناء مجتمع ينعم فيه المواطن بالحرية والمساواة تحت سقف قانون واحد يسري على الجميع، ويكون هدفه إطلاق إبداعات أبنائه وليس تقييدها باسم المحافظة على عادات وتقاليد هي جاهلية في طبيعتها ولا تمتّ بصلة إلى الدين ولا إلى ما جبلت عليه
الكويت منذ نشأتها من تعلّق بالمشاركة في السلطة، ثم الالتزام بدستور 62 الذي قنن هذه الطبيعة الكويتية. إلى الشابات والشبّان الذين يحلمون بمستقبل مشرق للكويت يعيد دورها الرائد في محيطها، كي تنضم إلى عالم العلم والمعرفة الذي أخذ ينطلق بسرعة هائلة لا مكان فيه للمتخلّفين. إلى هؤلاء جميعاً أهدي هذا الكتاب. محطّات عربية العلاقة مع جمال عبدالناصر جمال عبدالناصر كان يقدّر دور الشعب الكويتي في مناصرة الثورة في مصر. فالحركة القومية في الكويت لا تُقارن بأي بلد عربي آخر. وقد ذكرت في كتابي الأول ما حدث هنا إبان العدوان الثلاثي على مصر ويوم إعلان الوحدة وغيرها من الأحداث العربية الكبيرة. كان الشعب الكويتي وسط هذه الأحداث وكانت الحركة القومية في عزّ نشاطها ومكانتها. كان لعبدالناصر نظرة خاصة الكويت. لذلك مثلاً عند تهديد قاسم للكويت لم يتردّد جمال عبدالناصر لحظة واحدة في دعم الكويت. وقد عاتب الوفد الكويتي الذي زاره في تلك الفترة على طلب المعونة من الإنكليز وعدم طلبها منه مباشرة فكان ردّ الوفد إيجابياً مما جعل عبدالناصر يرمي بكلّ ثقله على الجامعة العربية للاعتراف بالكويت ولإرسال قوات عربية تحلّ محلّ الإنكليز في الدفاع عن الكويت. جمال عبدالناصر كانت تعجبه مواقف الشيخ عبدالله السالم. سأل مرّة: ما قصة الشيخ عبدالله السالم؟ فهو عندما يجتمع معه على انفراد أثناء مؤتمرات القمة العربية يقول لا تتردّد، اطلب مساعدة من مؤتمر القمة، اطلب وسأكون معك. لقد كان عبدالله السالم دائماً يحرّضني على تقديم طلب المساعدة لمصر. وقلت له إن عبدالله السالم يرى أن القومية الحقيقية هي قوة. والحقيقة أن عبدالله السالم كان يطلب من مصر أن تطلب الدعم للمواجهة حتى تتبرع السعودية والدول النفطية الأخرى وهكذا يبرّر هو تبرعه أمام السعوديين والإنكليز الذين لا يريدون أي دعم لمصر. كانت علاقتي مع جمال عبدالناصر ممتازة. أستطيع أن أقابله في أي وقت وبدون موعد سابق. كنت أذهب إلى مصر وأعود في اليوم نفسه بعد مقابلته. كانت سيارة الرئاسة تأخذني من المطار إلى مكتب الرئيس مباشرة. وإذا كانت هناك طائرة في اليوم نفسه تعيدني سيارة الرئاسة إلى المطار. وفي رواية عن الأمير طلال بن عبدالعزيز آل سعود الذي تربطني به صداقة قديمة أعتزّ بها أنه كان في اجتماع مع عبدالناصر ولمّا وصلت إلى المكتب استأذنه عبدالناصر وجاء لرؤيتي ثمّ عاد إليه وفسّر سبب تركه وهو الأمير السعودي لمقابلة شخص بسيط وقال له إن الخطيب جاء ليطلب مدرّسين للكويت! ويروى عن جمال عبدالناصر قوله: اثنان من الساسة العرب (كمال جنبلاط من لبنان ود. أحمد الخطيب من الكويت) أكنّ لهما احتراماً خاصاً. كثير من اللقاءات مع الزعيم الراحل كانت لمعالجة مشكلات تحدث بين الحركة والأجهزة المصرية، على سبيل المثال عندما احتجزت بعض قيادات الجنوب اليمني، أو عندما قيل إن عبدالناصر سيحضر مؤتمر قمة عربية وكانت الحركة تخشى من هذا المؤتمر على مجمل الحركة القومية العربية. كنت أقابل عبدالناصر وأناقشه في تلك الأمور وكان يتجاوب معنا ويشرح لنا موقفه من القضايا التي لا يتّفق معنا بشأنها. ذهبت مرّة لمقابلته في مصيفه بالاسكندرية وكان برفقتي محسن إبراهيم وأكلنا معه كوسا «محشية» على العشاء. وديع حداد قال عندما سمع بقصة الكوسا: كوسا «محشية»! المرة القادمة سأذهب معكم. معروف عن وديع حداد حبّه للكوسا. ومن الطرائف حول حبّ وديع حداد للكوسا أنه حين كان يرتّب مسألة اختطاف الطائرات التي تمّ تدميرها في الأردن، جاءت طائرة قال قائدها إنه قادم من البحرين. فقال لم يكن عندنا خطة لاختطاف طائرة من البحرين. وقال هذه خدعة انتبهوا ولا تسمحوا للطائرة بالنزول. حينئذ قال مختطف الطائرة قولوا لوديع حداد «كوسا» فلمّا بلغه ذلك قال هذه لنا اسمحوا لها بالنزول. لم يحدث أن ناقشت مع عبدالناصر أي موضوع يتعلّق بالكويت، ولا هو طلب ذلك. كانت الإشاعات في الكويت التي تروّجها الحكومة أن أحمد الخطيب يرتّب لوحدة مع مصر وأن الكويت ستبتلعها مصر وتنتهي لو تمّت هذه الوحدة، ولكن أيّ من هذه الموضوعات لم يتمّ بحثها مع الزعيم الراحل أو غيره. الشيخ عبدالله السالم قال لي أثناء مرضه إنني مع أحد أفراد الأسرة حرّضت خروتشوف للتهجّم عليه حسب تقرير مقدّم إليه من أمن الدولة، ولم أفهم لماذا حشر اسم أحد الشيوخ معي في هذه المؤامرة المزعومة، قال لي هذا الكلام قبل وفاته وكانت مفاجأة بالنسبة لي. فأنا لا أعرف حتى هذا الوقت لماذا اختار خروتشوف تلك المناسبة، مناسبة الاحتفال بالسدّ العالي، ليهاجم عبدالله السالم بالذات. والحقيقة أنها كانت مفاجأة للجميع فلم يكن هناك أي سبب يستدعي ذلك الهجوم وبالذات بحضور عبدالناصر. ألم يجد خروتشوف إلا عبدالله السالم ليسبّه من كل حكام العرب؟ يقول أحد المسؤولين في الخارجية إننا في الوزارة فوجئنا بذلك الهجوم وقررنا إصدار بيان للتنديد بخروتشوف، ولما عرضناه على الشيخ عبدالله السالم قال إنه بيان قوي ولا داعي للتصعيد. مبادرة روجرز في أوائل عام 1970 فجّرت علاقتنا مع عبدالناصر، وكانت بعد أحداث الأردن. نشرنا افتتاحية قوية ضد المبادرة في الطليعة كانت سبباً للقطيعة. اتضح بعد ذلك أن تلك المبادرة أضرّت بإسرائيل كثيراً. كانت إسرائيل تعتمد على رفض الدول العربية لمبادرات السلام. وكانوا يردّدون دائماً أننا نريد السلم مع العرب ولكنّ العرب يرفضون أي مبادرة. فعندما قبلت مصر بمبادرة روجرز أُسقط في يدهم ولم يعرفوا وقتئذ كيف يتصرّفون. الإسرائيليون لا يريدون السلام لأنه إذا تحقق فسوف توضع حدود للدولة اليهودية وهو ما يناقض الحلم الصهيوني التوسعي. ولكن على الرغم من قبول المبادرة، فإنه معروف أن جمال عبدالناصر هو الذي تولّى أمر الجيش بعد هزيمة يونيو 1967 وهو الذي أعدّ لحرب 1973 التي تمّت بعد وفاته واستفاد منها أنور السادات بعد أن جيّرها لنفسه. القضية الفلسطينية كما عشتها مآخذ على العمل الفلسطيني في البداية كانت هنالك قناعة عامة عند الفلسطينيين بأن العرب سوف يهبّون لنجدتهم وسوف يحرّرون فلسطين. لكن بعد مدة شعروا بأنه يجب أن يكون لهم دور واضح في تحرير بلدهم فبدأت تتكوّن التنظيمات الفلسطينية. ومع أن المهمة كانت واضحة وتدعو كل الفلسطينيين إلى تحمّل مسؤولياتهم في التحرير فإنه مع الأسف ساد التنافس بدل التعاون بين هذه التنظيمات، وكلما ظهر عجزها عن تحقيق شيء ما زادت انقساماتها وصار كل فريق يلوم الثاني على الفشل مع أن هذا الفشل كان فشلاً للجميع. لماذا هذا الضياع؟ لأن الرؤيا كانت مختلفة، فهناك من كان يرى أن نضال هذه المجموعات يجب أن يكون مساعداً للجيوش العربية التي سوف تأتي لتحرير فلسطين، ومن كان يعتقد أن مهمتهم هي توريط هذه الدول العربية المترددة لدخول حرب مع الصهاينة، ومن كان يحسب أن إرسال الفدائيين إلى الداخل للقيام بأعمال فدائية قادر على هز استقرار هذه الدولة. مجزرة أيلول الأسود عام 1970 كانت في رأيي حاسمة في النضال الفلسطيني. وكان يجب أن تكون هناك وقفة جادة لقراءة هذا الحدث، إلا أن ذلك لم يحصل للأسف الشديد، وكان واضحاً أن العلة تكمن بما يلي. أولاً - ليست هنالك «هانوي» عربية لتحتضن معركة التحرير، فكل نظام عربي يهمّه أولاً كيفية تثبيت سلطته. وهذا معناه أن يكون ولاء القوى المسلحة والأمنية هو للنظام ولحمايته من أعدائه المحليين. وعليه فإن الذين يتسلّمون المسؤولية الأمنية يجب أن يُخْتاروا حسب ولائهم للنظام وليس لكفاءتهم العسكرية أو الفنية. ويكون التركيز على قمع أي تحرك شعبي وليس على مواجهة العدو الصهيوني فيتحول الجيش إلى قوة بوليسية بدل أن يكون جيشاً حقيقياً، وتتكون طبقة عسكرية لها امتيازات وصلاحيات واسعة وتغرق في الفساد. نظام كهذا لا يمكن أن يسمح لقوة ثانية وتتمتع بدعم شعبي أن تكون موجودة على أرضه فما بالك إذا كانت غير محلية. هل يمكن لأي نظام عربي أن يسمح لأي فلسطيني أن يخرج عن السيطرة أو يدفع البلد إلى حرب مع العدو الصهيوني وهو يعرف أنها حرب خاسرة بكل المقاييس. ثانياً - التنظيمات الفلسطينية تعددت وتمددت، وأصبح لها كوادر كبيرة ومقرّات عدّة ومقاتلون وممثلون في البلدان العربية أو حتى في بلدان غير عربية، وأصبحت في حاجة إلى ميزانيات ضخمة لا بدّ من توفيرها من جهة ما. كل هذه الأمور جعلت هذه التنظيمات أسيرة الجغرافيا والمال. الجغرافيا توفرها لها الدول العربية والمال كذلك. هكذا أصبحت كل الفصائل الفلسطينية أسيرة الجغرافيا العربية والمال العربي، وفقدت قدرتها على الاستقلال، وأصبحت رهينة لهذه الأنظمة التي حبذت بعض فصائلها لتنفيذ مخططاتها هي. بعد أيلول الأسود وبعد أن طُرِدَتْ هذه الفصائل من الأردن ثم من سورية واستقرت في لبنان، رأيت من واجبي أن أطرح وجهة نظري، وهي استبدال هذه الاستراتيجية الفلسطينية ذات الطريق المسدود باستراتيجية بديلة وفعالة. ذهبت إلى بيروت وكان معي د. وديع حداد وقابلت د. جورج حبش وشرحت له أهمية تغيير الاستراتيجية. صحيح أن لبنان ليس دولة بالمعنى الدقيق للدولة، إلا أن اللبنانيين ودول الجوار لن يسمحوا للبنان بأن يكون هانوي فلسطينية، وقلت لجورج حبش سوف تلاقون المصير نفسه. واقترحت عليه الاستراتيجية التالية: 1. مقاومة الاحتلال الإسرائيلي يجب أن تناط بالفلسطينيين الذين هم تحت الاحتلال أولاً، ومساعدتهم على أن يستنبطوا أشكال المقاومة بحسب إمكاناتهم، وتتطور هذه المقاومة مع تطور هذه الإمكانات، وتكون القيادة الفلسطينية منهم. وهكذا تتحرر القيادة الفلسطينية من الهيمنة العربية الجغرافية والمالية. ويكون القرار الفلسطيني مستقلاً بشكل حقيقي. 2. أن تحل كل المنظمات الفلسطينية خارج فلسطين المحتلة وتتحول إلى تنظيمات تقدم الدعم المالي والإعلامي إلى من هم في الداخل بقدر المستطاع. وبعد نقاش مطوّل تم إقناع الحكيم بذلك، لكنه قال: «إن تنفيذ هذا صعب الآن، والذي أراه أننا مقبلون على معركة نهائية هنا في لبنان نموت فيها أبطالاً فنُلْهِم من سيأتي بعدنا ويغيروا المسار». د. وديع حداد كان يرى أن إسرائيل تعيش بالشرايين التي تأتيها من الخارج، فلا بدّ من تقطيع هذه الشرايين. قابلت أبو أياد وقد كانت تربطني به صداقة واحترام متبادل، وطرحت عليه الموضوع فوافقني الرأي ووعد بأنه سيحاول إقناع رفاقه، لكن لم يتمّ التجاوب مع ما طرحته وبقيت الأمور على ما هي عليه. عندما انتُخب كارتر رئيساً للجمهورية في أميركا تخوف الصهاينة منه، وأشيع أنه يؤيد قيام دولة فلسطينية، وبدأت حملة مضادة له، على أثرها جرى لقاء بينه وبين القيادات اليهودية في أميركا وأثاروا هذا التخوف فرد عليهم بأنه لا ينوي تأييد قيام دولة فلسطينية، وكذلك فإن القادة العرب الذين التقاهم والذين اتصل بهم تلفونياً وعدّد أسماءهم واحداً واحداً أكدوا له أنهم ضد قيام دولة فلسطينية وأنهم يعتقدون أن قيام دولة فلسطينية ديمقراطية يشكل خطراً عليهم أكثر مما تشكله إسرائيل. كان بين الحضور الكاتب اليهودي المشهور «جوزيف كرافت»، وقد كتب مقالاً عن ذلك اللقاء قرأته بجريدة الهيرالد تريبيون الأميركية، وتوقعت أن يثير عاصفة عربية إلا أن أحداً من الشخصيات التي ذكرها لم يكذب هذا الخبر. وفي مؤتمر القمة العربية الذي عقد في عمان تركز البحث على الحرب العراقية-الإيرانية، وكم كانت دهشة الفلسطينيين تحت الاحتلال أن يتم تجاهل قضيتهم والقادة العرب في عمّان، أي قاب قوسين أو أدنى من فلسطين. وهذا المؤتمر زاد قناعة الفلسطينيين في الداخل بأن القادة العرب ليسوا مهتمين بقضيتهم وأن عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم، مما عجّل بانتفاضة «أطفال الحجارة» التي استحوذت على مشاعر الكثيرين في العالم، خصوصا عندما كانوا يرون الأطفال العزل من السلاح يتصدّون للدبابات الإسرائيلية بالحجارة، لكن المناورات السياسية العربية والفلسطينية الرسمية أجهضتها لخطورتها عليهم. إن هذه الأوضاع العربية جعلت أبو جهاد، وغيره من القادة الفلسطينيين، أكثر قناعة بضرورة تبنّي سياسة مغايرة تتركز على العمل من خلال الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وكما يبدو، عقد أبو جهاد اتفاقاً مع أبو عمار لأن يسير كل على منهجه واستطاع أبو جهاد أن يحصل على التمويل الذي يريده من أبو عمار ضمن هذا الاتفاق. وهكذا بدأ عمله بتنظيم العمل داخل الأراضي المحتلة حتى نضجت الظروف للانتفاضة الثانية، وأصبحت تشكل خطراً حقيقياً على الصهاينة وبعض الأنظمة العربية، مما عجّل بالعمل على التخلص منه بصورة غريبة، إذ قامت قوة إسرائيلية بدخول تونس واغتياله. ولن أسمح لنفسي باتهام أحد، رغم ما قيل عن تسهيلات قدّمت، لأنني لا أمتلك المعلومات الكاملة. هنا سارع أبو عمار إلى التقاط الخيوط المؤدية إلى الداخل، ولأنه وحده الذي يتصرف بالأموال كلها بدأ بإدخال عناصر من الخارج إلى الداخل للتحكم في الانتفاضة، مما أحدث استياء لدى قيادة الانتفاضة بالداخل. هذا التطور نُقِلَ إلى أصدقاء الانتفاضة في أوروبا من العرب لسهولة الاتصال بين إسرائيل وأوروبا. هنا تداعت بعض الشخصيات العربية غير الفلسطينية لدعم الانتفاضة للمحافظة على استقلاليتها، وكان ذلك في الوقت الذي بدأت بعض الحكومات العربية ومنظمات شعبية تشك في حكمة أبو عمار وطريقة تصرّفه بالأموال التي تصل إليه، وبدأت تتحفظ في مساعدته وتتجه إلى منظمات المجتمع المدني الفلسطيني الموجودة داخل الأراضي المحتلة لدعمها مباشرة من غير وسيط. ومن دون الدخول في التفاصيل شاركت في اجتماع عاصف في تونس بين أبو عمار ومجموعة من الشخصيات العربية التي كانت تحاول الاتصال «بالانتفاضة» لدعمها. وقد رفض أبو عمار أي تحرك لدعم الانتفاضة إلا عن طريقه هو، لأنه كما قال «فلسطين هي عمارة أنا حارسها» ولن أسمح لأي كان بأن يدخل هذه العمارة من دون الاستئذان مني. ولابدّ لي بمناسبة الحديث عن هذا الموضوع، من تسجيل استيائي، بل انزعاجي، عندما انحرفت الانتفاضة واستهدفت المدنيين من نساء وأطفال في المطاعم وأماكن اللعب بدل التركيز على قوات الاحتلال، فخسرت الانتفاضة الكثير من التعاطف العالمي الواسع الذي كانت تلقاه. أبو عمار كما عرفته لا بدّ من التحدث قليلاً عن أبو عمار كما عرفته مع أن الحديث الشريف يقول «اذكروا محاسن موتاكم». لم أكن أعرف أبو عمار عندما كان يعمل في الكويت كما لم أكن أعرف الكثير عن نشوء حركة فتح. ولأني من حركة القوميين العرب فأنا أقرب إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ولكني لم أكن معادياً لفتح. فكل شخص حر في خياراته ولا اعتراض عندي على ذلك. عملت مع أبو عمار مباشرة عندما كنت في الأمانة العامة للجبهة العربية المشاركة للثورة الفلسطينية والتي كان كمال جنبلاط رئيساً لها. وعندما قررنا أن نفتح فروعاً للجبهة في كل بلد عربي، سارعت إلى تنفيذ هذا القرار في الكويت، ودعوت إلى اجتماع عام في مقر اتحاد العمال الكويتي. وكانت الدعوة موجهة إلى كل من له نشاط واهتمام بالقضايا العربية ولم أستثنِ أحداً. وأرسل كمال جنبلاط اثنين من قِبله للتأكد من حيادية الدعوة والاجتماع. في اليوم التالي انبرى ممثل فتح وهو ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في الكويت بشنّ هجوم على الاجتماع في إحدى الصحف الموالية للنظام مستغرباً تدخّلنا في الشؤون الفلسطينية. أثرت ذلك في اجتماع الجبهة في بيروت فاستغرب أبو عمار موقف ممثله في الكويت ووعد باتخاذ الإجراءات اللازمة. بعد أن مرّت فترة ولم يفعل أبو عمار شيئاً، أخبرت أبو إياد فقال لي: «اترك الأمر لي، أنا سأعالج الموضوع». إلا أن شيئاً لم يحصل. وكان أبو عمار عندما يزور الكويت يتجنّب الاتصال بي. أنا لم أنزعج من هذا الموقف بل كنت أتفهّم الوضع. الكويت تقدم مساعدات كثيرة إلى فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية والفلسطينيين المقيمين في الكويت، وخصوصا في أمور التعليم والإقامة والعمل. وحدها فتح المسموح لها بجمع التبرعات، ولفتح مقرّ رسمي لها دون بقية التنظيمات، وهذا ما لا تستطيع القوى الوطنية أن تقدّمه لمساعدة الثورة الفلسطينية. فطبيعي أن يحرص أبو عمار على علاقة طيبة مع النظام ويبتعد عن المعارضة، بل يعاديها حتى لا يخسر تعاطف الحكومة معه. إلا أنني فوجئت ذات يوم بالمسؤول في المنظمة في الكويت يقول إن أبو عمار موجود في الكويت ويريد مقابلتك هذه الليلة في بيت الضيافة التابع لحكومة الكويت. استغربت ذلك مع أني كنت أعرف أن علاقته مع حكومة الكويت كانت متوترة في ذلك الوقت بسبب عدم ارتياح الكويت لطريقته في استعمال التبرعات التي كانت تقدمها إليه. في الموعد المحدد ذهبت أنا والمرحوم سامي المنيس وعبدالله النيباري إلى بيت الضيافة وانتظرناه في الصالة. نزل لمقابلتنا، وقبل أن يجلس إذا برجل أمن فلسطيني يقول له إن طائرته جاهزة وعليه أن يغادر حالاً فاعتذر إلينا وخرج!! أصبنا بالذهول. لماذا دعانا إذن؟ وطائرته طائرة خاصة تستطيع أن تغادر وقت يشاء! لقد كانت حركة بهلوانية يريد من ورائها أن يهدد الحكومة الكويتية بالمعارضة إن هي حاربته، وأظهرنا كأننا نحن الذين طلبنا اللقاء معه لمساعدتنا ضد الحكومة الكويتية! هل اعتبرنا بهذه السذاجة والغباء؟ هل كانت هذه نظرته إلينا؟ في لقاء مع صديق فلسطيني عزيز عليّ وتربطه قرابة عائلية مع أبو عمار. قال تريد أن تعرف أبو عمار؟ فقلت يا ليت؟ قال أبو عمار يشعر بالذل والإهانة في كل بلد عربي يزوره، وأمنيته أن يحصل ولو على قرية فلسطينية يقيم عليها دولة ليحقق استقلاله وهو يشك في كل الذين حوله. ويعتقد ان كل واحد منهم جاسوس لدولة عربية معيّنة. فلا يبوح لهم بأسراره ويسيطر عليهم بأموال المنظمة وأموال فتح فلا يصرف قرشا واحدا إلا بتوقيعه هو وحده. نظرة على مستقبل فلسطين من جهتي أعتقد جازماً أن إسرائيل كدولة دينية غير قادرة على البقاء فهي سوف تزول عاجلاً أم آجلاً. لقد علّمنا التاريخ أن هذه المنطقة إما أن تهضم الجسم الغريب أو تلفظه مهما طال الزمن. وأمام الإسرائيليين خياران لا ثالث لهما: 1. أن تكون فلسطين كلها دولة واحدة ديمقراطية للعرب واليهود. 2. أو أن تسير نحو الانتحار عبر إصرارها على يهوديتها معتمدة على تفوّقها العسكري ودعم المنظمات اليهودية العالمية والولايات المتحدة الأميركية. فالتفوق العسكري قد انتهى بفضل الثورة العلمية التي تجتاح العالم والتي جعلت كل أنواع الأسلحة ذات الدمار الشامل متوفرة للجميع، ومعلوم أن الانتصار في مواجهة كهذه هو لمصلحة الدول الكبيرة مساحة وسكاناً، والفناء للدول الصغيرة مساحة وسكاناً، والجانب الديموغرافي سيكون له تأثير كبير وسوف تتحول إسرائيل بفضل التطور الديموغرافي إلى دولة عنصرية منبوذة من العالم. حرب 1973 وحرب 2006 في لبنان أنهيا أسطورة التفوّق العسكري الإسرائيلي. ما يزعجني ويؤلمني هو وضع الفلسطينيين بشكل عام، فأنا أعتقد أنْ لا يوجد شعبَ عانى بقدر ما يعانيه اللاجئون الفلسطينيون جيلاً بعد جيل. إن هذا الوضع المأساوي يشكل وصمة عار في جبين كل الدول العربية والشرفاء في هذا العالم. وقد آن الأوان لأن تعاد إلى هؤلاء كرامتهم وإنسانيتهم وحقهم في حياة عادية كريمة حتى يعودوا إلى وطنهم معزّزين مكرّمين. لست في معرض الدخول في تفاصيل مأساة الفلسطينيين فهذه معروفة ولا داعي للتكرار، غير أن هنالك أموراً قد اتضحت بشكل موثق ليس من قبل مراكز الدراسات الفلسطينية والتي قد يطعن البعض في مصداقيتها، بل من قِبل يهود كتبوا عن المخطط الصهيوني الجهنمي لقلب كل الحقائق ضمن وثائق رسمية للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وكشفوا الدور الذي لعبته العصابات الصهيونية مثل الهاجانا وشتيرن وتزفاي ليومي، كما كشفوا التواطؤ الإنكليزي. ومن أهم هذه الدراسات ما فصّله نعوم شومسكي في دراساته الكثيرة و... التطهير العرقي للبروفيسور اليهودي Ilan Papen وله ترجمة من أحمد خليفة، إضافة إلى وثائق كثيرة وعديدة، مما يشكل مادة كافية لإقامة دعوى ضد هذه الدولة أمام المحكمة الدولية باعتبار ان أعمالها جريمة ضد الإنسانية، لو أن هنالك جهات فلسطينية أو عربية رسمية أو شعبية تتبنى هذه القضية المهمة. فخطة طرد الفلسطينيين جميعهم من فلسطين بدأ تنفيذُها قبل حرب عام 48 بمساعدة كاملة من الإنكليز عن طريق تدريب اليهود وتسليحهم، لا بل في قيادتهم من قبل ضباط إنكليز سواء كانوا من الفيلق اليهودي الذي قاتل معهم في الحرب العالمية الثانية أو عن طريق مساعدة المنظمات الصهيونية التي عملت داخل فلسطين. لقد درب الإنكليز هؤلاء وأمدّوهم بالأسلحة في حين جرّدوا الفلسطينيين من أسلحتهم. وفي الوقت نفسه قام الإنكليز بوقف تصدير الأسلحة والذخيرة إلى كل الدول العربية مما شلّ محاولة الحكومات العربية لإنشاء جيوش ذات قيمة. والأمرّ أن الكتاب يحكي عن الاتفاقية التي عقدها الملك عبدالله مع بن غوريون على تقاسم ما تبقى من فلسطين. وتكتمل الصورة عندما يقرر الحكام العرب تكليف الضابط الإنكليزي «جلوب»، قائد الجيش الأردني، بقيادة الجيوش العربية والمتطوعين لتحرير فلسطين. ويذكر الكتاب كيف أن بن غوريون كان يزود شاريبت وزير خارجيته الذي كان في الخارج بمعلومات مغلوطة تصور أن العرب قاب قوسين من رمي اليهود في البحر، لتضليل الرأي العام العالمي وكسب ودّه وتعاطفه مع الصهاينة. هذه الفجيعة التي ألمّت بالعرب خلقت نقمة عارمة عند الشعب العربي ضد حكامه مما دفع الكثير من الضباط العرب، الفالح والطالح، للسعي إلى الحكم تحت شعار تحرير فلسطين وإسكات كل صوت يطالب بالإصلاح تحت حجة أنه لا يعلو صوت فوق صوت المعركة. قلة منهم كانوا صادقين وأبرزهم جمال عبد الناصر، غير أن مشروعه القومي بقي حبراً على ورق فلم يستطع حمايته من الانتهازيين والوصوليين. حوصر من قبل بعض المجموعات الانتهازية التي التفّت حوله وأجهضته. وخير دليل على ذلك كان اعتقال عناصرنا من الجبهة القومية لتحرير الجنوب العربي في اليمن والقاهرة من قِبل الاستخبارات العسكرية وهم يخوضون حربهم ضد الاستعمار وعجز جمال عبد الناصر عن حمايتهم- كما ذكرت سابقاً في الجزء الأول. غداً: صدام والحرب العراقية - الإيرانية