لا تقيم معارضات المنطقة، في الغالب الأعم، لمسألة «السيادة» كبير اعتبار. لها في ذلك على الأرجح اعتباران، واحد آني، هو المتمثل في تهربها مما قد تراه ابتزازا، تسلطه أنظمة تحسب نفسها مناط السيادة الحصري وتتماهى معها، فتميل إلى مساواة كل فعل اعتراض عليها مع لا ما يقل عن الخيانة الوطنية أو ما يندرج في عدادها، والآخر، وهو وثيق الصلة بالأول، تكويني تأسيسي، يستند إلى رؤية تفيد بأن الكيانات «الوطنية» عديمة الشرعية، بمعيار الانتماء إلى «الأمة» أو إلى الوحدة العضوية الأصغر، وأن صفتها تلك تنسحب استطرادا على الدول القائمة عليها.
يتجلى مثل ذلك الموقف في مثالين قد يكونان أقصيين، نهض بأحدهما حزب «الله اللبناني»، لا سيما في صائفة 2006، عندما استدرج حربا خارجية على البلد، دون أن يستشير أحدا من مكوناته، ناهيك عما يُفترض أنه سلطاته النافذة والمحرزة على الاعتراف الدولي بصفتها تلك، وتولت الثاني المعارضة العراقية لصدام حسين، تلك التي حثّ بعضها على الغزو وأبدى تواطؤاً معه، نشيطاً أو سلبياً اكتفى بعدم الاعتراض عليه وبالنظر إلى الناحية الثانية، فصير في الحالتين إلى التضحية بـ«السيادة» من أجل إسقاط نظام غاشم مقيت، مما يفصح عن الكثير حول الأولويات وكيفية ترتيبها. وبين الموقفين ذينك تنويعات كثيرة من قبيلهما وإن كانت أقل دراماتيكية، استدراجا لتدخل أو شكوى، مزرية في حالات كثيرة، تُرفع إلى هيئات خارجية، ليست كلها بالمراتب الدولية أو القيمية التي يُتوسم فيها الحياد، بل هي دول ومصادر نفوذ ليست براء من فئوي المصالح ومما كان منها أنانيا.لكل ذلك، فإن تهم «الاستقواء بالأجنبي»، تطلقها الأنظمة في وجه مناوئيها، ليست بالضرورة مردودة ولا هي عديمة القيمة، وإن كانت أحيانا من كلام الحق الذي يراد به باطل، بل هي قد لا تخلو من وجاهة، فسواء استحقت تلك الأنظمة أم لم تستحق، فهي عمليا مناط «السيادة» أو هكذا تلوح في نظر العالم وهيئاته الناظمة التي تتعامل معها على هذا الأساس، أقله نظريا ووفق ما يقتضيه القانون الدولي. صحيح أن الأنظمة تلك قد تستخدم أحيانا مبدأ «السيادة» ذاك لمصلحتها، وأنها قد تخلط أحيانا بين ائتمانها على تلك الصلاحية وبين امتلاكها لها، ومن هنا مغزى «الحق في التدخل» الذي استُنهض في تسعينيات القرن الماضي ضد طغاة، شأن الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش، نكلوا في حق شعوبهم، ولكن ما لاشك فيه من وجه آخر أن مبدأ «السيادة» ذلك قائم، لبنة أساسية يقوم عليها كل اجتماع سياسي وكل معمار عالمي، أقله حتى إشعار آخر، كأن تتحقق، على سبيل المثال، نبوءة كانط حول «السلام الأبدي».وذلك، بعد أن يتعين القبول والإقرار به، في معرض القبول بالأوطان والإقرار بها، وهذه، على ما دلت التجربة ولا تنفك تدل، لا مجال لسياسة من خارجها أو من دونها، لسبب بسيط هو أن كل سياسة عدا تلك غير عملية، وغير مجدية تاليا أو عكسية المفعول، فهي إما نكوص عن هذه الأخيرة إلى ما دون الوطني، وإما تجاوز لها نحو التهويمات الإيديولوجية.عاملان على الأقل يدعوان إلى ذينك الإقرار والقبول، أولهما أن مبدأ «السيادة» ذاك يضطلع بوظيفة تأسيسية، فهو الذي يرسم إطارا، مفهوميا وترابيا، تجري السياسة في بعدها الداخلي في كنفه، وفي بعدها الخارجي بالاستناد إليه، وهو لذلك يمثل المعطى القبْلي الذي يتعين أن يبقى بمنأى عن الصراع السياسي بين السلطة ومعارضيها، وهو من وجه آخر، وذلك هو العامل الثاني، لا ينفك يتأكد بوصفه الرهان الأساسي للحياة الدولية، إذ لم تعد سيادة الأوطان والدول تحصيل حاصل، رديفاً لنيل الاستقلال كما كانت الحال في موفّى الفترة الاستعمارية، بل أضحت صلاحية قابلة للانتقاص أو للإلغاء، باسم متطلبات العولمة أو باسم قيم تزعم كونية أو باسم نفوذ يعبر عن نفسه سافرا بطبيعته تلك، على ما حصل طوال فترة الرئيس الأميركي الآيل إلى انصراف جورج بوش...قصارى القول من كل ما سبق وجود مبادئ بعينها، وعلى رأسها مبدأ «السيادة» والحرص عليه، هي مما يمنح العمل السياسي شرعيته، سواء تمثل في السلطة أم في المعارضة، وأن هذه الأخيرة التي لا تملك غالبا من المسوغات غير زعمها التصدي لوظيفتها تلك، لا يمكنها أن تؤسس فعلها ذاك إلا على أساس الأخذ بذلك المبدأ، يسبق لديها السلطة ويجيز المطالبة بهذه الأخيرة، أي يمنحها صفة الطرف السياسي، مسبّقا مبدأ «المسؤولية» على مبدأ السلطة، اختبارا قد يفضي إلى هذه الأخيرة، من باب المشاركة أو السعي في طلبها انفراداً.* كاتب تونسي
مقالات
المسؤولية في عيون المعارضة
30-12-2008