في الخمسينيات... راج الحديث عن فساد الملك فاروق وعهده وحاشيته وتنافس الحكاءون واجتهدوا ومنحوا الملك المخلوع وجهاً بائساً وشيطانياً، لكن الأجداد والآباء في القرى كانت لهم لغتهم وطرائقهم لتجسيد ذلك الفساد والحديث عنه «كان الملك يضع تحت سريره براميل معبأة بالعسل وينام النهار كله ويأكل وحده عندما يصحو خروفاً».

Ad

كنت طفلاً عندما صبّوا في أذني هذه العبارات. ولم يستوقفني منها في ذلك الوقت سوى كسل الملك فاروق ونومه، فقد كانوا يجبروننا على الاستيقاظ في الصباح الباكر قائلين «إن الله سبحانه وتعالى يقسِّم الأرزاق ويرسلها إلى الناس قبل شروق الشمس، والكسول النائم لا رزق له... ومن ثم فعليه أن يواجه الجوع».

وكان على أحدهم أن يفسر لي فوز الملك بهذا الطعام كله رغم كسله ونومه وانقطاع رزقه. وعندما سألت الجد أجاب ضاحكاً: «كان الملك يأكل رزق غيره تماماً كما تأكل أنت كالمنشار من رزق جدتك في الأيام التي تظل فيها نائماً إلى الضحى».

وكانت الجدة عندما أصحو بعد شروق الشمس أحياناً تقول لي «لا تقلق فإن رزقي كثير جداً... ويكفينا معاً لأني صحوت قبل الفجر».

في القرى كانوا ومازالوا يستيقظون قبل شروق الشمس أو في الفجر كيلا تضيع منهم بركة النهار، كما يقولون. وأظننا لم ننسَ رائعة سيد درويش التي تغنيها أيضا فيروز «الحلوة دي قامت تعجن في البدرية، والديك بيدن كوكوكوكو في الفجرية...». وفي القرى كانت الذئاب فقط هي التي تتوارى في جحورها نهاراً وتهاجم في المساء والليل خراف الفلاحين عندما تصحو... هكذا نسج الفلاحون في الخمسينيات ذلك التناظر العجيب بين الذئاب والملك.

احترام السلطة وتبجيل الكبير تراث مصري قديم رسخته وكرسته الأساطير والحكايات والأغاني وعدد لا يحصى من المأثورات والأمثال الشعبية «العين ماتعلاش على الحاجب»- «الكبير كبير ولو حطوه في بير»- «اللي يجوز أمي أقوله يا عمى»- ورغم شيوع الحديث عن الفساد في الفترة الأخيرة وموجات الغلاء وكثرة الإضرابات والاعتصامات وتجرؤ الصحف «معارضة ومستقلة» والفضائيات على أكبر رموز السلطة، ظل الناس في القرى متحفظين وحذرين ويتجنبون الخوض في قضايا السياسة والحديث عن الحكام والحكومة.

وظلوا أوفياء لتراثهم وبلاغتهم المتميزة. فهم يرون السلطة شراً مطلقاً «البعد عنها غنيمة»، ويستعيدون ربما تاريخها معهم منذ العصر الفرعوني وشكاوى الفلاح الفصيح إلى جباة محمد علي والمماليك الذين أجبروا الناس على الفرار من المنازل والحقول وجنّدوهم في جيوش السخرة لشق الطرق وحفر الترع وبناء الجسور والقصور، لذلك ظلوا رغم شيوع الحديث عن الفساد وانفجار قضاياه بعيدين عن المشاركة الفعالة في الحراك السياسي، وظلوا يرفعون رايتهم الشهيرة «ابعد عن الشر».

وقد ظل والدي حتى وفاته ينصحني كلما زرت قريتنا بإغلاق فمي قليلاً، والانشغال بأموري الخاصة، والابتعاد عن يد الحكومة «العمياء»، وعينها القادرة على «فلق الحجر».

لم يمتد حبل الود بين السلطة وأغلبية الشعب المصري إلا في أيام عبدالناصر الذي اعتبره الكادحون والبسطاء واحداً منهم قادراً على الصعود بهم وردّ الاعتبار لآدميتهم، وفتح أبواب الأمل والمستقبل لأبنائهم. لذلك اقترب الناس في زمنه، ربما لأول مرة، من شعارات السلطة وممثليها ورموزها وأغانيها واكتشفوا لها وجهاً آخر خيّراً وجميلاً ووظائف كانت قد انقرضت في مقدمتها الإصلاح والبناء والتعليم والتصنيع وتكريس المساواة والعدل الاجتماعي والفخر بالوطن والذات.

هذه الوظائف هي التي حولت انقلاب يوليو 1952 إلى ثورة، وعبدالناصر إلى زعيم، وسلطة عهده إلى سلطة مطلوبة ومدعومة من الجماهير، لها- رغم بطشها- مزايا القدرة على البناء والتغيير وتتمتع بحزم البنائين وإصرارهم في الوقت نفسه.

وبعد رحيل عبدالناصر، لم يستطع السادات، رغم جلبابه وعباءته وحديثه الدائم عن العودة إلى أخلاق القرية، الإبقاء على ذلك الوجه الجديد للسلطة الذي أحبه الناس وساندوه... لأنه لم يكن بنّاءً كعبدالناصر، ولأنه كان مشغولاً بصوره وأناقته ووضع حجر الأساس لعصر الطوائف والمماليك الجدد.

* كاتب وشاعر مصري