من أجل موقف عربي يوقف نزيف الدم الفلسطيني

نشر في 19-01-2009
آخر تحديث 19-01-2009 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري آلة الحرب الإسرائيلية الوحشية والعمياء، تحصد كل يوم المزيد من أرواح الأبرياء، لا فرق بين مدني ومقاتل ولا تميز بين طفل أو امرأة، ومازالت الطائرات الحربية الإسرائيلية تواصل غاراتها على السكان العزل وتطاردهم بنيرانها في كل مكان، في بيوتهم السكنية أو في المساجد أو المدارس أو المقابر أو المستشفيات والمكاتب الإعلامية حتى مقار ومخازن الأغذية والأدوية وسيارات ورجال وكالة غوث اللاجئين (الأونروا) لم تسلم.

العوائل الفلسطينية في غزة تهيم على وجوههها وتتشرد في الطرقات ولا ملجأ آمن يأويهم، نساء وأطفال وعجائز يستغيثون ويستصرخون ويطلبون النجدة والحماية ولا مغيث ولا منجد ولا حامي ولا معين ولا نصير، لكم الله يا أهل غزة الصامدين، فهو وليكم، وهو الذي يغيثكم ويصبركم ويعوض صبركم خيراً.

أكتب المقال وقد دخل العدوان الهمجي يومه الحادي والعشرين، ونزيف الدم مستمر، وأعداد الشهداء في تزايد، وقد جاوزت الألف، أما الجرحى فتجاوزوا الـ5 آلاف، معظمهم أطفال ونساء، أما المباني والمؤسسات الحكومية والخدمية والتعليمية وغيرها فقد سويت بالأرض، وبات أكثر من مليون ونصف المليون نسمة من دون كهرباء، هذا غير الآثار النفسية التي ستتركها هذه الحرب العدوانية في نفوس أطفال غزة على مدى جيل كامل بل أجيال.

لا شيء يبدو في الأفق القريب، يردع الهمجية الإسرائيلية من مواصلة عدوانها، لا قرار مجلس الأمن الإجماعي ولا الإدانات الدولية المتكاثرة والمتوالية ولا المظاهرات الغاضبة والمنددة بهذا العدوان، والتي شملت معظم دول العالم، ولا حتى مناشدات منظمات الإغاثة الدولية بوقف مؤقت من أجل الاحتياجات الإنسانية، بل إن إسرائيل صعدت غاراتها الجوية والبحرية والبرية بعد صدور القرار الأممي رقم (1860) ورفضته، مستهينة به، وقالت إنه لا شيء يلزمها بوقف النار، وإنها هي التي تقرر متى تتوقف عن عدوانها، إسرائيل تتحدى المجتمع الدولي بأسره، ولا تأبه بقراراته، ولا تقيم لها أي وزن، والمجتمع الدولي يقف عاجزاً عن إلزام إسرائيل بقراراته، يا لجبروت هذه الدولة الظالمة!!

جاء الأمين العام للأمم المتحدة إلى المنطقة لتفعيل القرار الدولي وحاول مخاطبة الضمير الإسرائيلي باسم الإنسانية والقانون الدولي، وعاد مخيباً الآمال، ويستعد رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة لإطلاق تحرك في الجمعية العامة، وقال إن إسرائيل تنتهك القانون الدولي خلال عدوانها المستمر على غزة، ويهدف اجتماع الجمعية العامة إلى المطالبة بتنفيذ قرار مجلس الأمن الصادر في 8 يناير الجاري حتى لا يستمر حبراً على ورق.

الجهود العربية لإنقاذ الشعب الفلسطيني من أهوال الحرب المجنونة متواصلة، وكونها لم تحقق هدفها فهذا لا يعني اتهامها بالتخاذل، العرب لم يتخلوا عن الفلسطينيين، ولكن الأمر فوق طاقتهم، وإذا كان مجلس الأمن عاجزاً فكيف نتهم العرب بأنهم متخاذلون، وأن قادتهم خائنون، وأن على جامعتهم إما قفلها وإما نقلها إلى فنزويلا؟! الذين يستمرئون ما يسمى بجلد الذات ونعي الأوضاع ولا يكفون عن ترديد مقولة (التخاذل العربي) في مقابل تمجيد مواقف طهران المشرفة، أسألهم: ماذا فعلت طهران لفلسطين غير الخطب الحماسية؟! على هؤلاء المتحمسين الذين يريدون دفعنا إلى الانتحار الجماعي إما أن يعقلنوا طروحاتهم وإما أن يتقدموا الصفوف ويفتحوا الحدود ويمدوا المقاومة بالسلاح وبإطلاق الصواريخ المخزونة حتى نصدقهم! أما توزيع الاتهامات وتخوين قادة العرب، فحيلة العاجزين.

للدول العربية خياراتها المشروعة، فهناك من اختار السلام، فهذا خياره وحقه وعلينا احترامه، وهناك من اختار المقاومة، وهذا خياره وحقه، وعلينا احترامه، وعلى الجميع احترام خيارات بعضهم بعضاً، وهذا يرتب أمرين مهمين:

1- عدم جواز فرض خيار دولة على دولة أخرى.

2- عدم تخوين واتهام بعضنا بعضاً بالتواطؤ والتآمر.

وإن تجاوز هذين الأمرين هو الذي يعمق الانقسام العربي، وليس الخلاف في الاختيارات المشروعة، وإذا كان هدف هؤلاء الذين اختاروا منهج المقاومة الاستمرار فيها ورفض المفاوضات والسلام، فعليهم أن يبرهنوا على ذلك بالعمل لا بمجرد القول، وعليهم أن يفتحوا حدودهم ويمدوا المقاومة بالسلاح، أما أن يتخاذلوا عن ذلك ويطالبوا الدول التي اختارت السلام بفتح حدودها للسلاح والمقاومة، فهذا فرض رأي مرفوض هدفه التكسب السياسي واللعب بعواطف الناس واستدامة المأساة ونزيف الدم الفلسطيني. وهذا الذي اتهم قادة العرب بالخيانة والتواطؤ عليه أن يخجل من نفسه، وهو آثم قلبه ولسانه، وعليه أن يتقي ربه.

العرب، شعوباً وحكومات وقادة، لم يقصروا ولم يبخلوا ولم يتوانوا -لحظة- في الوقوف والدعم والمساندة وتقديم كل أنواع العون وبذل كل المساعي من أجل الفلسطينيين وتوحيد صفوفهم، فالقضية قضيتهم أولاً وأخيراً، وقد آن لهذه المزايدات السخيفة أن تنتهي، لقد أثبتت مأساة غزة بكل وضوح ولكل ذي عقل وبصر أن الأعلى صراخاً هو الأكثر ضلالاً والأقل عملاً والأعظم تعميقاً للانقسام الفلسطيني، وكل ذلك بهدف المتاجرة بالقضية والتكسب السياسي الرخيص على حساب دماء الأبرياء، لو كان هؤلاء الذين يخونون ويتهمون صادقين في دعواهم لقدموا لنا عملاً واحداً من أجل فلسطين!! هؤلاء يحرضون «حماس» على مزيد من التصلب والمزيد من دماء الأبرياء.

نعم الجهود العربية تتواصل، وهي في سباق مع الزمن، وفي الأمس القريب نجحت تلك الجهود في استصدار القرار الدولي الذي عمق عزلة إسرائيل سياسياً ودولياً، ويوم الخميس عقد القادة الخليجيون قمتهم الطارئة في الرياض من أجل توحيد الموقف الخليجي في دعم غزة ووضع حد للمأساة ونزيف الدم، ويوم الجمعة عقدت في الدوحة قمة عربية طارئة بمن حضر من القادة والزعماء (اجتماع تشاوري) وذلك بناء على دعوة أمير دولة قطر الذي وجه خطاباً للأمة ليلة الخميس 15 يناير، حيا فيه صمود أهل غزة، وقال إن مأساة غزة المفجعة من الأهمية التي تتطلب قمة خاصة بها، وطرح عدداً من الأفكار والمقترحات منها: الوقف الفوري للعدوان، والانسحاب الفوري والشامل لقوات الاحتلال وفتح جميع المعابر وتسهيل عبور الأفراد والإغاثة ورفع الحصارغير الشرعي وغير القانوني وإنشاء صندوق لإعادة إعمار غزة، وقد أعلن سموه مساهمة قطر بمبلغ 2500 مليون دولار، كما اقترح تعليق مبادرة السلام العربية ووقف كل أشكال التطبيع مع إسرائيل، وإقامة جسر بحري تشارك فيه كل الدول العربية لنقل ما يحتاجه أهلنا في غزة، والسعي إلى محاسبة إسرائيل على جرائمها ضد الإنسانية أمام القضاء الدولي والوطني.

وفي تصوري أن أعمال هذا الاجتماع التشاوري، والقمة الخليجية، ستصب في دعم أعمال قمة الكويت، وستكون غزة في قلبها كما صرح د.محمد الصباح الذي قال إن ذلك يأتي تحقيقاً لرغبة أمير دولة قطر، وخلافاً لما أشيع من أن لقاء الدوحة قد يحدث تفتيتاً للجهود العربية، قال الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني: إن هناك عدة اجتهادات عربية وهي تصب في النهاية في تحقيق المصلحة العربية العامة وتحقيق الهدف المهم هو الوصول إلى حل للوضع في غزة، نافياً أي شكوك في أي مواقف عربية، مؤكداً أن اجتماع الدوحة لا يتنقص من قمة الكويت التي ستحضرها قطر على أعلى مستوى.

ولا ننسى في هذا السياق الإشادة بالجهود المصرية الحثيثة، وهناك أنباء عن قبول إسرائيل و«حماس» للمبادرة المصرية مع بعض الشروط، لذلك نأمل أن تثمر هذه الجهود في وضع حد لنزيف الدم الفلسطيني.

إن آمال العرب اليوم أصبحت معلقة بقمة الكويت في اتخاذ موقف عربي فاعل يضع حداً للعدوان، وينقذ هذا الشعب الأعزل الصامد الذي يضرب المثل في التضحيات وفي قوة الإيمان والإرادة، ويبقى في النهاية أن نقول إن العالم كله لن يستطيع أن يساعد الفلسطينيين إذا لم يساعدوا أنفسهم، وذلك بتجاوز ما حصل وتحقيق المصالحة الوطنية، إذ لا يمكن للعالم أن يستمر في التعامل مع شعب برأسين.

* كاتب قطري

back to top