مآذن لها تاريخ مئذنة الجامع الأزرق بالقاهرة
في حي باب الوزير بين أسوار القاهرة الجنوبية وحي القلعة، ترتفع مئذنة فريدة شاء مهندسها أن يميزها عن سائر مآذن العصر المملوكي، بتصميم لم يتكرر بعد تشييدها هي وجامع آق سنقر الملحقة به في عام 748 هـ “1347 م ”. وتقع مئذنة الجامع الأزرق في الطرف الشمالي للواجهة الغربية لجامع آق سنقر، وشيدت فوق قاعدة متعامدة الأضلاع، ارتفاعها إلى مستوى الشرافات التي تتوج جدران المسجد الخارجية . والدورة الأولى للمئذنة جاءت على هيئة بدن أسطواني مستدير، بخلاف ما هو مألوف في المآذن المملوكية التي تتخذ أولى دوراتها هيئة المربع أو المثمن .. والدورة الثانية أقصر من الأولى وزخرف بدنها الأسطواني على هيئة قنوات مستطيلة أو تضليعات تذكرنا بتقاليد المآذن السلجوقية في آسيا .
أما الدورة الثالثة فبدنها سداسي الأضلاع، يفتح في كل ضلع من أضلاعها الستة بعقد فارسي مدبب على شرفة المؤذن الوسطى، وفوق هذه الدورة شرفة أذان متوجة بخوذة قبة خشبية مغلفة بالرصاص، شيدت على هذا النحو في عام 1307 هـ، بإشراف هرتس باشا مدير لجنة حفظ الآثار العربية، وحلت مكان خوذة حجرية كان لها نفس الشكل . ولهذه المئذنة ثلاث شرفات للأذان بواقع واحدة عند نهاية كل دورة، وهي محمولة على صفوف من المقرنصات الحجرية الدقيقة المعقدة .. والمئذنة بتصميمها القريب الصلة بتقاليد العمارة السلجوقية والذي لا يخلو من روح ابتكارية ولاسيما في الطابق السداسي، ونهايته على شكل خوذة قبة صغيرة تعكس التطور السياسي والحضاري للدولة المملوكية في النصف الأول من عمرها، إذ اقتبست هذه الدولة نظمها الإقطاعية ورسوم حكمها من أنظمة الدولة السلجوقية، كما أرساها الوزير الشهير نظام الملك في كتابه “ سياسة نامة”، وامتد الانبهار بأنظمة السلاجقة إلى اقتباس الكثير من تقاليد الفن المعماري السلجوقي، وخاصة في الاستخدام الزخرفي والوظيفي للمقرنصات، ولكن هذه المحاكاة السياسية والفنية لم تكن كاملة، وسرعان ما غلب الطابع المحلي عليها، ولعل مئذنة الجامع الأزرق بمزاوجتها بين القليل من التقاليد السلجوقية والكثير من الابتكارات الهندسية، تجسد بداية مرحلة الإبداع المملوكي التي رافقت الفترة الثالثة من حكم السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون أعظم سلاطين دولة المماليك البحرية . ومشيد هذه المئذنة والمسجد الملحقة به، هو الأمير آق سنقر الناصري أحد مماليك الناصر محمد بن قلاوون، وكان مقربا من السلطان مخلصا لأسرته وتولى عدة مناصب مهمة مثل نيابة طرابلس الشام وزوجه السلطان إحدى بناته . وبعد وفاة السلطان خدم آق سنقر ابنه الكامل شعبان، وعمل على انتقال الملك من بعده إلى المظفر حاجي ابن الناصر محمد، وأثار دوره السياسي حنق المماليك الطامعين في عرش البلاد، فقبضوا عليه وقتلوه في ربيع الآخر سنة 748 هـ “1347م ” ووري جثمانه الثرى في مسجده . واشتهر آق سنقر بين أقرانه من أمراد المماليك بتعففه عن أموال الرعية وإجادته للخط العربي، وأشرف بنفسه على أعمال البناء في هذا الجامع مشجعا العمال على سرعة إنجازه، وشرع الأمير آق سنقر في تشييد الجامع في 16 من رمضان سنة ٧٤٧ هـ وألحق به مكتبا وسبيلا وقبة ليدفن بها، وافتتح المسجد للصلاة قبل إتمام أعمال البناء والزخرفة في يوم الجمعة ٣ ربيع الأول سنة 748 هـ “1347م ” ووقف عليه ضيعة من قرى حلب للصرف عليه وتعميره . ويتألف جامع آق سنقر من صحن أوسط، تحيط به أربع ظلات للصلاة على غرار طراز المساجد الجامعة الأولى، ويبدو أن في صحنه كانت توجد ميضأة أو فوارة للمياه، ثم هدمت وبنى الأمير طوغان الدوادار في عام 815 هـ “1412 م ” فسقية مكانها، وغطاها بسقف محمول على أعمدة من الرخام، ولكن هذه الفسقية اختفت أيضا وحلت مكانها حديقة بوسط الصحن . وتعتبر ظلة القبلة أهم ظلات الجامع وأكبرها، إذ تشتمل على رواقين كانت عقودهما محمولة على أكتاف حجرية مثمنة وسقوفها معقودة، ومازال رواق القبلة أمام المحراب، محتفظا بتصميمه الأصلي، بخلاف الرواق الثاني المشرف على الصحن، الذي استبدلت عقوده ليحل محلها سقف من الخشب وبقى طرفاه على أصلهما، وأبدلت بدعائمه عمد رخامية، وأكتاف حجرية مربعة .. وحدث نفس التعديل في الظلتين الجنوبية والشمالية التي يتألف كل منها من رواق واحد، فيما بقيت الظلة الغربية محتفظة بعناصرها الأصلية إلى حد كبير .. وأجرى هذه التغييرات إبراهيم أغا مستحفظان “ مدير أمن العاصمة ” في عمارته الكبيرة بالجامع خلال عامي 1061 - 1062 هـ “1651 م ” ، وسجل ذلك في غير موضع من المسجد . ولم يكتف إبراهيم أغا بترميم عمارة الجامع، بل كسا جدار القبلة على جانبي المحراب حتى السقف ببلاطات خزفية رائعة الألوان والزخارف، وهي أكبر مجموعة من بلاطات القاشاني التركي وجدت في أثر واحد بمصر، ويبدو واضحا أن هذه البلاطات صنعت في إحدى المدن التركية، بطلب من إبراهيم أغا ووفقا لأبعاد جدار القبلة، فبعضها يمثل محرابا يعلوه قنديل وكتب فيه “يا ا لله يا محمد ” وبعضها يكتنفه عودا سرو وبداخله زهرية تفرعت منها فروع نباتية تحمل زهورا، والبعض الآخر يمثل زهريات مختلفة وزخارف وزهورا ملونة، ونظرا لغلبة اللون الأزرق على زخارف هذه البلاطات الخزفية، اشتهر الجامع بين زوار مصر باسم الجامع الأزرق وذهب اسم مشيده آق سنقر . ومحراب جامع آق سنقر من المحاريب الكبيرة، وكسيت حنيته بأشرطة دقيقة من الرخام والصدف، وبه محاريب صغيرة محمولة على عمد لطيفة .. أما طاقية المحراب فهي من الرخام المزخرف بالحفر، بشتى أنواع الزخارف النباتية الملونة البارزة وهي الأولى من نوعها في مصر .. وعلى يسار هذا المحراب لوح من الرخام مكتوب فيه رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المحراب المبارك في ليلة السبت تاسع شهر ذي القعدة الحرام سنة ثمان وستين وثمان مئة وهو قائم يصلي .. عمر هذا الجامع الشريف إبراهيم أغا مستحفظان في تاريخ سنة 1062 هـ . قباب فاطمية ويعلو المحراب قبة كبيرة لها منطقة انتقال من صف واحد من المقرنصات، على غرار القباب المملوكية المبكرة، والتي تأثرت بالقباب الفاطمية .. وبظلة القبلة تحفتان نادرتان من الرخام، أولاهما المنبر الرخامي الملون وهو يسترعى الانتباه بدرابزينه الحافل بالزخارف البارزة المؤلفة من أوراق وعناقيد العنب، ويعتبر أقدم منبر رخامي باق في مساجد مصر، ويليه منبر مدرسة السلطان حسن .. أما التحفة الثانية فهي دكة المُبَلِّغ التي تقوم على عمد رخامية رشيقة، وهي الأخرى من أقدم أمثلة دكك المبلغين الرخامية، وواجهة جامع آق سنقر من أجمل الواجهات في عمائر المماليك، فبابها الرئيسي له عقد محمول على كوابيل وهي من النوادر المعمارية، وعتب الباب ملبس بمزررات رخامية خضراء وبيضاء، وعلى يساره قبة شيدت في هذا الموضع لدفن رفات علاء الدين كجك السلطان المملوكي، الذي توفى قبل عام من بدء تأسيس الجامع، وذلك من قبيل الوفاء من آق سنقر لأخي زوجته، ولهذه العتبة شبابيك محلاة بمزررات رخامية ملونة ما بين خضراء وبيضاء يعلوها شباك مستدير لبس ما حوله بالرخام الملون المزخرف يغطيها مقرنص واحد .. وعلى يمين الباب شباكان حليت أعتابها بمزررات رخامية خضراء يغطيها مقرنص واحد ثم تنتهي الواجهة بمئذنة الجامع . وعلى يمين الداخل إلى الجامع توجد الآن “ مقبرة ” خصصت لدفن جثمان آق سنقر في عهد إبراهيم أغا مستحفظان وذلك بعد نقلها من القبة التي كانت إلى جوار الجامع، ويستفاد من نقوشهما أن الجامع كان يعرف حتى وقت إبراهيم أغا باسم جامع النور .