ألوان الخطاب الإسلامي المعاصر
يشكل الدين جزءا مهما من السلوك الثقافي للإنسان، ليعيش جنبا إلى جنب مع مظاهر أخرى، توجدها التقاليد والموروثات تارة، والاحتكاك بالعالم الخارجي المعتنق لدين آخر أو للاديني تارة أخرى، لكنه عند آخرين أعمق بكثير من السلوك، وهو إما مكتمل بذاته، أو مكتفٍ بما لديه، أو أن لديه القدرة على هضم أي «وافد» عليه من دين أو حضارة أو تقاليد أخرى، بحيث يستفاد من السمين فيه ويلفظ الغث، من دون أن يتأثر جوهر الدين، أو يتكدر نبعه الصافي، الذي كان عليه وقت نزول الرسالة وتبليغها. وبالنسبة للمسلمين فهناك من يرى ضرورة أن تكون هناك قطيعة مع الثقافات الأخرى، وخصاما مع أي تقاليد أو موروثات، لأن هذه تشكل «جاهلية» جديدة يجب التصدي لها ومحاربتها، إما بالدعوة التي تنقّي ما تعكر، وتصوب ما أصابه الزلل، أو حتى بالقوة التي تغير المجتمع وتبدله تبديلا. وهناك من يتسامح مع المجتمع، ويرفق به، فيثني على النافع ويثبته، ويذم الضار ويخلعه، ويحاور صاحب أي رأي مختلف بالحكمة والموعظة الحسنة.
أما على المستوى العملي فإن الصفاء والنقاء يوجد في «العقيدة» في منبعها وأصلها، وقبل أن تشوبها أي شائبة، أو يختلط بها أي اعتقاد أو ميل مخالف، ويوجد كذلك في «الخطاب القرآني» في ألوهيته، وليس في «الخطاب الديني» في شقه البشري. أما وجود «خطاب ثقافي إسلامي» صاف أو يدّعي النقاء المعرفي والقيمي والسلوكي الكامل فضرب من المستحيل، لأسباب عديدة منها:1- إن الإسلام انفتح على الثقافات الأخرى منذ بدء دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فثبت كل الفضائل والسلوكيات الحميدة التي كان يفعلها عرب الجاهلية، وقاطع وزعزع كل الرذائل والسلوكيات السيئة التي كانوا يقترفونها. واستمر العمل بهذه القاعدة «الواقعية» عند المسلمين المعتدلين المدركين لروح الإسلام وطرق الدعوة السلمية في كل زمان ومكان. 2- تعقد مفهوم الخطاب، فهو من ناحية الشكل يشمل كل أعمال الاتصال، المكتوب منها والشفهي، المادي والرمزي، المنطوق والسيميائي. ومن ناحية المضمون يبدو بناء معقدا يحوي داخله العديد من الأفكار والقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية ... الخ. ومثل هذا البناء المركب والمعقد لا يمكنه أن يحال إلى معين واحد، أو مرجعية واحدة، إلا بالمعنى الواسع، الذي يتفاعل فيه الخاص مع العام، وتتحاور فيه الذات الحضارية مع الإرث الإنساني المشترك.3- عدم وجود خطاب ثقافي إسلامي واحد في الزمان نفسه، نظرا لعدم وجود المسلمين في «منطقة ثقافية» واحدة، فهم موزعون جغرافيا على كل قارات الدنيا، بعضهم يسكن الوديان الخصبة وآخرون يعتلون قمم الجبال أو يعيشون في الصحارى القاحلة، وهم موزعون على كل ثقافات الدنيا، الأنجلوسكسونية والفرانكوفونية والثقافات الآسيوية والأفريقية، المتعددة والمعقدة. 4- عدم وجود خطاب ثقافي إسلامي واحد في المكان نفسه، ففي البلد الواحد يمكن أن نجد الخطاب الديني الرسمي وغير الرسمي، والمنغلق والمنفتح، والخطاب المعتدل والمتطرف، والخطاب السلفي والآخر الصوفي... الخ. علاوة على ذلك توجد دول إسلامية عدة، تضم الواحدة منها أشتاتا من البشر، مختلفين في الأعراق واللغات واللهجات، أي أنهم مختلفون في الثقافة الفرعية، التي يظل لها حضورها، ولها بصمتها على الثقافة الأصلية المستمدة من الإسلام، ومن ثم يكون لدينا في البلد الواحد تجاور لأكثر من خطاب ثقافي إسلامي، باستثناء الذوبان الكامل الذي يمكن أن يحدث في جماعات وتنظيمات إسلامية صغيرة عابرة للإثنيات واللغات واللهجات.5- اتساع مفهوم الخطاب الإسلامي عند الكثير من المفكرين والفقهاء المسلمين إلى درجة أن بعضهم يرى أنه خطاب يتميز بالسعة والشمول، بقدر سعة الإسلام وشموله. 6- رحابة الإسلام نفسه في المعنى والأصل، إذ إنه يعني «إسلام الوجه لله سبحانه وتعالى»، بما يجعل الإنسان عبدا مطيعا مخلصا لربه، مؤمنا به وبوحدانيته، ومتوكلا عليه، يراعي وجوده في كل قول يتلفظ به، وفي كل فعل يبدر عنه. كما أنه وبنص القرآن دين يسبق دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، فأبو الأنبياء سيدنا إبراهيم «أول المسلمين»، بل إن الإسلام بمعناه المذكور سلفا، هو الدين منذ المنشأ، الذي نزل مع آدم إلى الأرض، بغض النظر عن الأسماء التي أطلقها البشر على الرسالات والدعوات، مثل الإبراهيمية واليهودية والمسيحية. فهذه الرسالات منبعها واحد، وجوهرها واحد، وأي مضمون أو شكل طرأ عليها وجعلها تنحرف عن هذا الأصل وذلك الجوهر، هو من صنع البشر، بالتأويل الخاطئ تارة، وبالاختلاق والكذب على الله تارة أخرى. ومن ثم فإن الآية الكريمة التي تقول: «إن الدين عند الله الإسلام» (آل عمران: 19) ... والأخرى التي تقول: «من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه» (آل عمران: 85) يجب أن يفهما في ضوء هذا، فالدين واحد، والدعوات والرسالات السماوية متعددة، والأنبياء والرسل متعاقبون. وكل ما يقال عن الاصطفاء والاختيار مشروط بالأعمال والأعباء والواجبات والفرائض التي أمر الله تعالى بها عباده، فلا اليهود «شعب الله المختار» ولا «المسيحيون ملح الأرض ونور العالم» ولا المسلمون «خير أمة أخرجت للناس» بالإطلاق في كل زمان ومكان، ومع أي فعل أو وضع أو ظرف. 7- وجود ثنائية متعايشة بين الخاص والعام في الأديان من دون تفرقة أو تمييز. فالمبشرون بالدعوات الدينية، يقولون في مرحلة التمكن إن لديهم «منظومة قيمية» تنطبق على كل شعوب الأرض. أما في أوقات الضعف، وحين يكون أصحاب هذه الدعوات مستهدفين من قبل الأغيار الأقوياء، فيطلبون من هؤلاء ألا يدسوا أنوفهم في شؤونهم، وألا يفرضوا عليهم ثقافة بعينها، ويحترموا خصوصيتهم، ويقروا بتعددية تسمح للجميع بأن يتمسكوا بمعتقداتهم، ويمارسوا طقوسهم الدينية والثقافية. وهذا لا يعني أن عالمية الدعوة أمر غير واقعي أو مرتبطة بمرحلة التمكن فقط، بل يعني في المقام الأول أن هذه العالمية، الرامية إلى هداية البشر أجمعين، يجب أن تكون في بناء العقيدة وتعلم العبادات أو أركان الدين، ويجب ألا تتغول لتفرض نمطا ثقافيا محددا، فهذا فوق طاقتها، ولا طائل كبير من ورائه، إنما الجدوى تتحقق حين تركز الدعوة على منح الثقافات السائدة إطارا أخلاقيا عاما، لا يجور على التعدد والتنوع، ولا يقطع جذور مجموعة بشرية في أي مكان.* كاتب وباحث مصري