في أعقاب حرب 1973 بين مصر وإسرائيل، التي استطاع خلالها الجيش المصري أن يحرر الضفة الشرقية لقناة السويس ضمن خطة تسليح أقرها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قبل وفاته... وفي إطار الجدل الذي أطلقه حينذاك بطل هذه الحرب الرئيس الراحل أنور السادات حول هوية هذه الحرب: حرب تحريك أم حرب تحرير، نـُسِبَ إلى الشاعر المصري الشعبي المعروف بيساريته أحمد فؤاد نجم قصيدة انطلقت كالنار في الهشيم بين الوسط المثقف في مصر والعالم العربي قال في مطلعها:

Ad

خوفي منو يوم النصر ترجع سينا وتروح مصر

لم تذهب مصر لكن الشاعر راح إلى سجن «أبو زعيل» أو أي سجن آخر ليقضي فترة عقوبة على «وقاحته» البليغة ذات المعنى السياسي الكبير.

إن قدر مصر التاريخي والجغرافي لا يمكن أن يسمح لها بالذهاب إلى أي مكان. فهي باقية حيث هي ما بقي الدهر بعمق التاريخ الوطني والعربي.

منذ عصر محمد علي وثورة عرابي ضدّ الإنكليز، ودعوة سعد زغلول إلى الحرية والاستقلال التي لايزال صداها يجوب وديان مصر وصحاراها... تتراجع قليلاً نتيجة معطيات آنية، وتتغيّب قليلاً عن الساحة، لكنها تصبر كثيراً. تاريخ مصر علمنا أن لصبر مصر حدوداً، والمطلوب عربياً في هذه الفترة الحاسمة من تاريخ عالمنا أن نحترم صبر مصر دون التشكيك به، وأن نجاريها في صبرنا عليها مهما أخطأت أو أصابت، وأن نضع الإصبع على جرحنا الذي هو في الحقيقة امتداد لجراحها المتنوعة، وأن نردد مع الشاعر اللبناني الكبير بشارة الخوري (الأخطل الصغير)، أبياتاً قالها في رثاء سعد زغلول:

قالوا دَهتْ مصرَ دهياءُ فقلت لهم: هل غِيـِضَ النيل أم هل زُلزِلَ الهرمُ

قالوا أشدّ وأدهى قلتُ ويحكمُ إذن لقد مات سعدٌ وانطوى العلمُ

لكن العلم المصري لم ينطوِ، كما توقع شاعرنا الكبير، فبقليل من الصبر والأناة والضغط على الجرح جاء من يلتقط هذا العَلـَم ويرفعه عالياً، ليس فوق مصر أم الدنيا وعالمنا العربي، بل على أعلى سارية تطل على الكرة الأرضية كلها. فكانت ثورة الضباط الأحرار بقيادة عبدالناصر... هذه الثورة، وبالرغم من النكسات وأنصاف الانتصارات، فإنها لاتزال حية في القلوب وفي العقول، وهي تعيش اليوم حالة «الاختباء» كي تدرأ عن نفسها أخطار الانجراف العاطفي، قبل أن تستكمل عدّتها وعديدها ويصبح بمقدورها أن تستعيد الدور الذي رسمه لها القدر العربي في الدفاع العقلاني عن قضايا الأمة التي نالها من الظلم والحرمان ما لم ينل أي أمة أخرى في التاريخ القديم والحديث.

نستعيد هذا الكلام اليوم للمساهمة في إطفاء الحريق المفتعل بين الدولة الصابرة وأحد أعمدة المقاومة «حزب الله»، الذي يستهدف أول ما يستهدف تحقيق الأهداف البشعة في سلخ جلد الشعب المصري عن الجسد العربي. وغني عن القول أنه هدف يسعى إليه أعداء الأمة من إسرائيليين وغيرهم ويعملون بدأب وثبات لتحقيقه في ظلمة الليل الحالكة، وكلما طلعت الشمس على أرضنا الطيبة المسالمة.

إن هذا الحريق المفتعل الذي اندلع من دون سابق إنذار يجب أن يُعالج بهدوء وروية وفي إطار الحقائق التاريخية. إن مقاومة «حزب الله» ومنظمة «حماس» مع مقاومة مصر الصامتة هما توءمان سياميان لا يمكن الفصل بينهما دون تعريض الجسم المشترك إلى الموت الأبدي، ومن الضروري العمل في إطار هذه الحقيقة وضمن معطياتها لمحاصرة الحريق تمهيداً لإطفائه. وهي ليست عملية مستحيلة أو صعبة... كل ما نحتاجه هو المزيد من تفهّم بعضنا بعضا للوصول إلى تفاهم مشترك بحيث نعود إلى التحدث بلغة واحدة، وهذا لا يتطلب اجتراح معجزة، بل كل ما يحتاج إليه أن نضع الأعصاب في ثلاجة، وأن نستخدم العقل لا العاطفة أو العضل.

غير أن هذا يجب ألا يتمّ دون الإشارة إلى الأخطاء المشتركة التي ساهمت في اندلاع هذا الحريق تلافياً لحرائق مفتعلة جديدة. إن ذكر الأخطاء لا يعني بالضرورة تحميل المسؤولية أو الانحياز لهذا الفريق أو ذاك بقدر ما يعطي الجسم العربي الضعيف حصانة لمقاومة هذه الجرثومة الغريبة الخبيثة والقضاء عليها بشكل كامل.

إن «حزب الله» قد أخطأ، وهو في ذروة حماسه لدعم مقاومة «حماس» في غزة خلال العدوان الإسرائيلي الوحشي، عندما دعا قائده الأعلى السيد حسن نصرالله الشعب المصري وبالأخص قواته المسلحة إلى عمل «شيء ما» ضدّ النظام المصري. ثم ارتكب هفوة صغيرة أخرى عندما اشترك عملياً في دعم المقاومة عن طريق إرسال مبعوث حزبي واحد– كما يقول السيد حسن– مع خلية مبعوثين كثر– كما يقول النظام المصري– مستخدماً الأرض المصرية ومخترقاً سيادة نظامها. مع أنه كان من الأفضل والأجدر أن تتم هذه العمليات بعلم السلطات المصرية ومعرفتها المسبقة، خصوصا أن العقل المصري الرسمي مليء بالشكوك تجاه أهداف ونوايا الحزب من خلال دعم إيران له، خصوصا في الوقت الذي كانت الحرب السياسية والكلامية بين طهران والقاهرة في أوج ذروتها ولاتزال.

إن ضرورات إطفاء الحريق أن نعتبر عمل «حزب الله» من قبيل الجهل بالحساسيات المصرية وليس تجاهلها، ومن الواجب اعتماد هذه الصيغة كخطوة أولى في محاولة إعادة المياه إلى قنواتها الطبيعية. وإذا كان لـ«حزب الله»، وهو منظمة وُلِدَتْ بالأمس، وليس نظاماً متمرساً في فنون السياسة ومتعرجاتها، أن يخطئ، فمن المستغرب أن يرتكب النظام المصري وعلى رأسه قائد مارس السياسة وألاعيبها طيلة ثلاثين سنة، أن يرتكب أخطاء غليظة في المعنى وفي المفهوم.

والخطأ الأغلظ هو في إثارة النعرة المذهبية واتهام «حزب الله» بأنه أداة بيد إيران لنشر مبادئ المدرسة الشيعية في مصر، وكأنه بذلك يعلن العداء ويدخل طرفاً في معركة الإسلام التاريخية بين السنة والشيعة من دون أي مبرر سوى تحريض الشعب المصري على واحدة من أهم المدارس الإسلامية الفقهية بعد المدرسة السنية.

إن الرئيس المصري لا بد أنه يعلم ويدرك أن مصر كانت ولاتزال بعيدة كل البعد عن المشاركة في هذه الحرب القديمة العهد التي كتب تاريخها الأديب المصري الكبير طه حسين في كتابين تحت عنوان «الفتنة الكبرى... وعلي وبنوه» بالإضافة إلى كبار المؤرخين والأدباء المصريين الذين أعتبرهم كتّاب ومؤرخي الطرف الآخر... بأن مصر كانت ولاتزال– فقهياً – تميل إلى الأخذ أو الانحياز إلى الفريق الشيعي نتيجة لرواسب الدولة الفاطمية التي حكمت مصر في التاريخ الغابر، وانسياباً مع الحقائق التاريخية... إن المواطن المصري كان ولايزال غريباً عن اللغة المذهبية المستخدمة في عدد من الدول العربية فلماذا نُطلق المارد من قمقمه اليوم بالذات يا سيادة الرئيس؟!

من المفيد أن نقتنع بأن هذا الخطأ هو هفوة طالما أنها لم تصدر رسمياً على لسان صانع القرار المصري الأوحد. وقديماً قيل: لكل جواد كبوة. كذلك من المفيد أن نعتبر التراجع رسمياً عن هذه الهفوة فضيلة، ولطالما عودتنا مصر، خلال حقبات تاريخها الحديث، على أن العودة عن الخطأ هو من أكبر فضائلها. تبقى ناحية مهمة وهي أن يسارع الرئيس مبارك إلى لجم «فرقة حسب الله» الإعلامية التي تبث السموم والأكاذيب والتفرقة دون أي رادع أخلاقي، وبعيداً عن أبسط قواعد وشروط المهنة الإعلامية، مما يذكّرنا بأنغام موسيقى هذه الفرقة التي كان يقودها المرحوم أحمد سعيد أيام عبدالناصر. لقد تغيّر العازفون والراقصون وبقيت أنغام أحمد سعيد دون أي تحديث أو تعديل.

* كاتب لبناني

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء