طالما استخدم الإعلام في التلاعب بالرأي العام، لاسيما وقت الأزمات، وحين تعمل النخبة على تطويع الجمهور لخدمة أغراضها الخاصة، فعندما يتعمد مديرو أجهزة الإعلام إلى طرح أفكار وتوجهات تتناقض مع الحقائق الموجودة في الواقع، فإنهم يتحولون إلى سائسي عقول، ذلك أن الأفكار التي ترمي إلى خلق معان زائفة، وإلى إنتاج وعي لا يستطيع أن يستوعب بإرادته الشروط الفعلية للحياة القائمة أو أن يرفضها، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي، ليست في الواقع سوى أفكار مضللة.

Ad

وفي كتابه ذائع الصيت «المتلاعبون بالعقول» يصف هربرت شيللر الولايات المتحدة بأنها مجتمع منقسم يمثل التضليل الإعلامي إحدى الأدوات الرئيسة للسيطرة؛ في أيدي مجموعة صغيرة حاكمة من صناع القرار، من أصحاب الشركات ومسؤولي الحكومة، على أساس القاعدة التي تقول: «امتلاك وسائل الإعلام والسيطرة عليها، شأنه شأن أشكال الملكية الأخرى، متاح لمن يملكون رأس المال». ويتحدث شيللر عما يسميه «الوعي المعلب»، الذي يقوم على خمس أساطير هي:

1- أسطورة الفردية والاختيار الشخصي: إذ إن الحديث عن الحقوق المطلقة للفرد، والحرية التي لا حد لها، وإمكانية فصل الإنسان عن محيطه الاجتماعي، ما هو إلا محض وهم كبير.

2- أسطورة الحياد: حيث تقدم الرسالة الإعلامية في ثوب الاستقامة والموضوعية الشكلية، لتخفي التضليل الأيديولوجي الكامن في مضمونها، والمصالح التجارية الخاصة المضمرة في بنيتها.

3- أسطورة الطبيعة الإنسانية الثابتة: فالطبيعة الإنسانية عند مضللي العقول ثابتة لا تغيير وكذلك الحال بالنسبة للعالم الذي ينبغي أن يتكيف معه المجتمع على الحالة التي يكون عليها. وهذا يسهم في خلق صور نمطية مقصودة عن شعوب أو دول أو شخصيات بعينها، تبرر التضليل الإعلامي.

4- أسطورة غياب الصراع الاجتماعي: فالمتحكمون بالوعي من مديري أجهزة الإعلام والثقافة ينكرون إنكاراً مطلقاً وجود الصراع الاجتماعي الداخلي، على النقيض من الحقيقة التي لا تخفى على أحد، والتي تضطرهم في بعض الأحيان إلى الاعتراف بمثل هذا الصراع، لكنهم يعودون إلى التلاعب برده إلى مسائل فردية، نظرا لأن النخبة المسيطرة على وسائل الإعلام، والتي تولت مهمة التحريف والتجاهل لهذا الصراع تخشى نمو مقاومة الظلم الاجتماعي.

5- أسطورة التعددية الإعلامية: فالصورة المعروفة لدى شعوب العالم الخارجي، لشرط الحياة في أميركا، هي حرية الاختيار في بيئة من التنوع الثقافي الإعلامي، وقد تغلغل هذا الوهم في أعماق أغلبية الأميركيين، ما جعلهم مضللين. وحقيقة الأمر أنه باستثناء قطاع صغير جداً، من السكان يحسن الانتقاء، ويعرف ما الذي يشاهده، ويستطيع بالتالي الاستفادة من التدفق الإعلامي الهائل، فإن معظم الأميركيين محصورون، دون وعي منهم، داخل نطاق إعلامي مرسوم سلفا وبعناية. وعندما يجد البعض فرصة للتساؤل والشك في التعددية الإعلامية فإنهم يتحولون إلى أقلية تفكر عكس التيار وتخالف المجموع العام ويبدون مغفلين ومجانين ولا يفهمون، وقد يضطرون إلى إخفاء تساؤلاتهم وقناعاتهم ونداء ضمائرهم، ويتظاهرون بأنهم مثل كل الناس، ويقتلون بالتدريج ملكة التساؤل والضمير المزعج، أو يقبلون على مضض ويمارسون سرا متعة اللوم والتأنيب كأنما يهربون من أنفسهم أو يكفرون عن ذنب لم يقترفوه.

ويصل التحايل إلى ذروته مع الإعلام الصهيوني، الذي يعتمد على عدة خصائص منها، المناورة والمراوغة، بتحويل أنظار العالم عن المسائل الحساسة التي تضر الصهاينة أو تؤلمهم أو تفضحهم، والتركيز على القضايا التي تضر خصومهم أو تلفت النظر إلى سلبياتهم، والهروب من التفاصيل إلى العموميات حين يتعلق الأمر بإسرائيل، والإغراق في هذه التفاصيل حين يرتبط الأمر بالعالم العربي، حتى يتوه المتابع في دهاليز ملتفة لا تنتهي، وينسى جوهر قضايا العرب العادلة. كما يعتمد الإعلام الصهيوني على «ابتزاز وتهديد» كل من يفكر في تغيير مواقفه حيال السياسة العدوانية لإسرائيل، وعلى «استعطاف» الرأي العام العالمي، بالحديث عن اضطهاد اليهود، ويروج لأفكار من قبيل أن إسرائيل حمل وديع بين الذئاب، وواحة الديمقراطية وسط صحراء الاستبداد. ويتسم الإعلام الصهيوني ببراعة التزوير، إلى درجة يشعر فيها المتلقي أن يسمع أو يشاهد الحقيقة، مع أنه لا يتلقى سوى مزاعم موزعة بإتقان مهني في ثنايا الرسالة أو الخطاب الإعلامي.

وعموما فإن أساليب التحايل تطفح بشكل ظاهر من عملية الدعاية، التي تعتمد طرق المراوغة والتلاعب والمخاتلة والتدليس والكذب إلى أقصى حد. فمنذ المنشأ تتطابق الدعاية مع ما سبق ذكره من قواعد التحايل وأسسه، إذ إنها تطلب من القائم بالدعاية أن يقف وقوفا جليا على قوة عقل الشخص المستهدف، ودرجة تحمله، والعادات الراسخة لديه، ورغباته وحاجاته، وأفضلياته مرتبة تنازليا، ومدى إمكانية تغييره جذريا، وأقرب الطرق لكسبه، والفترة اللازمة لإخضاعه لتأثير الدعاية.

فالدعاية ترمي بالأساس إلى السيطرة على فرد أو جماعة أو شعب معين، ولذا فإنها مجبولة على استخدام المراوغة إلى أقصى حد، لأن هذه الطريقة بوسعها أن تقنع الفرد بالدخول في حيز الدعاية، والتهيؤ النفسي والعقلي لتقبلها، بمنحه بعض المبررات والأسباب التي تجذبه إلى الامتثال للقائمين بالدعاية، أو الذين يستهدفونه، ما يعزز احتمالات الحصول على ولاء من تستهدفه الدعاية، أو دفعه إلى تبني الخطاب الذي يبثه القائم بالدعاية. ويصل نجاح الدعاية إلى ذروته حين يردد أفراد المجتمع المستهدف الأقاويل نفسها التي يطلقها من يستهدفونه، وكأنها أفكارهم الذاتية، التي تنبع من عقولهم الخالصة، وإراداتهم الحرة.

إن القائم بالدعاية يشبه الساحر أو الحاوي الذي يجذب انتباه المتفرجين إلى شيء ليعميهم عن شيء آخر يقصده ويرعاه ويتبناه ويقيم عليه أهدافه. وهذا السحر يتبع طريقتين رئيستين، الأولى هي «التكثيف» الذي ينطوي على إظهار الجوانب الإيجابية في المسألة محل الدعاية سواء تعلقت بشخص أم بفكرة، عبر أساليب فنية عدة منها استخدام الصور الذهنية، واستبدال الأسماء والمصطلحات، والانتقائية، والكذب المستمر، والتكرار، والتأكيد، ومعرفة العدو وتحديده، والاستناد إلى السلطة والقوة، والارتباط الكاذب، وتزكية غريزة اتباع الغير، والتماثل أو التشبيه بالغير. والطريقة الثانية هي «التقليل» حيث يسعى القائم بالدعاية إلى الحط من شأن أشياء وأفكار وأشخاص محددين، عبر الحذف، وتحويل الانتباه، والالتباس أو خلق حالة من الارتباك والاضطراب في عقل الفرد أو الجماعة التي تستهدفها الدعاية.

* كاتب وباحث مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء