وداعاً للثورة الكلاسيكية الجديدة

نشر في 06-10-2008
آخر تحديث 06-10-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت إن إفلاس مؤسسة «ليمان برذرز» (Lehman Brothers)، والبيع القسري لشركة «ميريل لينش» (Merrill Lynch)، وهما اثنتان من أعظم الأسماء في عالم المال، من العلامات التي تشير إلى نهاية عصر. ولكن ماذا بعد ذلك؟

إن الدورات التي يمر بها النمط الاقتصادي ليست أحدث عهداً من دورات الأعمال التجارية، والتي تنتج عادة عن اضطرابات عميقة في قطاع الأعمال. فالدورات «المتحررة» تتبعها دورات «محافظة»، الأمر الذي يفسح المجال أمام دورات «متحررة» جديدة، وهكذا.

تتسم الدورات المتحررة بالتدخل الحكومي والدورات المحافظة بالتراجع الحكومي. امتدت إحدى الدورات المتحررة الطويلة من ثلاثينيات إلى ثمانينيات القرن العشرين، ثم أعقبتها دورة متحفظة من إلغاء التنظيمات الاقتصادية، والتي يبدو أنها قد بلغت نهايتها الآن. ومع تأميم بنكي الرهن العقاري الأضخم في أميركا، «فاني ماي» و«فريدي ماك»، بعد تأميم بنك «نورثرن روك» البريطاني في وقت سابق من هذا العام، تكون الحكومات قد بدأت في التدخل من جديد لمنع انهيار السوق. ويبدو أن أيام الاقتصاد المحافظ المثيرة قد ولت- في الوقت الحالي على الأقل.

إن كل دورة من تشريع التنظيمات أو إلغاء التنظيمات تأتي في أعقاب أزمة اقتصادية. وكانت الدورة المتحررة الأخيرة، التي ارتبطت بصفقة الرئيس فرانكلين روزفلت الجديدة (New Deal) بقدر ارتباطها بالاقتصادي البارز جون ماينارد كينز، قد بدأت بسبب الأزمة العظمى، رغم أن استمرارها على النحو الذي شهدناه تطلب ذلك القدر الهائل من الإنفاق الحكومي أثناء الحرب العالمية الثانية. وأثناء الفترة «الكينزية» التي استمرت طيلة ثلاثة عقود من الزمان، كانت حكومات العالم الرأسمالي تدير اقتصادها وتنظمه سعياً إلى الحفاظ على التشغيل الكامل للعمالة والإبقاء على التقلبات المعتدلة التي يشهدها قطاع الأعمال.

أما الدورة المحافظة الجديدة فقد أتت كنتيجة للتضخم الذي شهدته سبعينيات القرن العشرين، والذي بدا وكأنه أحد منتجات السياسات الكينزية. ولقد زعم المعلم الاقتصادي الأكبر في ذلك العصر، ميلتون فريدمان، أن الحكومات لابد أن تركز على الحفاظ على «سلامة» المال وأن تترك الاقتصاد ليرعى نفسه بنفسه. ومن تعاليم ذلك «الاقتصاد الكلاسيكي الجديد»، كما بات يُـعرَف بعد ذلك، أن الاقتصاد من شأنه أن يستقر تلقائياً حتى يصل إلى مرحلة التشغيل الكامل للعمالة، والإبداع، وارتفاع معدلات النمو، بشرط غياب التدخلات الحكومية الثقيلة.

وتعكس الأزمة التي تمر بها الدورة المحافظة الحالية، ذلك التراكم الهائل من الديون الرديئة التي تجسدت في أزمة الرهن العقاري الثانوي، التي بدأت في شهر يونيو 2007، والتي امتدت الآن إلى سوق الائتمان بالكامل، فتسببت في انهيار “ليمان براذرز». يقول الخبير المصرفي الاستثماري تشارلز موريس: «إن الأمر أشبه بالهرم المقلوب، فكلما تراكمت المطالبات على قمة الناتج الحقيقي، كلما بات الهرم المقلوب أكثر عُـرضة للتذبذب والتمايل».

وحين يبدأ الهرم في الانهيار يصبح لزاماً على الحكومة- التي تمثل دافعي الضرائب- أن تتدخل لإعادة تمويل النظام المصرفي، وتنشيط أسواق الرهن العقاري، ومنع الانهيار الاقتصادي. ولكن بمجرد تدخل الحكومة بهذا القدر من الثِـقَل فإنها تظل في موضعها لمدة طويلة عادة.

وهنا تبرز المعضلة المستعصية الأكثر قِدَماً في تاريخ الاقتصاد: «هل يتسم اقتصاد السوق بالاستقرار «بطبيعته» أم أنه في حاجة إلى التدخل السياسي لمساعدته على الاستقرار؟». ظل كينز يؤكد مراراً وتكراراً على هشاشة التوقعات التي يقوم عليها النشاط الاقتصادي في الأسواق التي لا يحكمها نظام مركزي. وإذا كان المستقبل بهذا القدر من الغموض المتأصل، فهذا يعني بالتالي أن سيكولوجية المستثمرين لابد أن تكون متقلبة.

قال كينز في كتاباته: «إن ممارسة رباطة الجأش والثبات، وتصنع الثقة والشعور بالأمان، من المظاهر التي تنهار على نحو فجائي. وتتحكم المخاوف والآمال الجديدة في السلوك البشري دون سابق إنذار». هذا هو الوصف الكلاسيكي «لسلوك القطيع» الذي اعتبره جورج سوروس المظهر المهيمن على أسواق المال. وهذا يعني أن وظيفة الحكومة تتلخص في تثبيت التوقعات.

كان أنصار الثورة الكلاسيكية الجديدة يعتقدون أن الدورات التي تمر بها الأسواق أكثر ثباتاً مما تصور كينز، وأن المخاطر المرتبطة بالصفقات كافة التي تعقد في السوق من الممكن التعرف عليها مقدماً، وأن الأسعار بالتالي سوف تعكس احتمالات موضوعية في الأحوال كلها.

كان هذا النوع من التفاؤل بقدرة السوق من الأسباب التي أدت أثناء فترة الثمانينيات والتسعينيات إلى إزالة التنظيمات التي كانت تحكم أسواق المال، وما أعقب ذلك من الإبداع المالي المتفجر الذي جعل من «المأمون» أن نستمر في اقتراض مبالغ متزايدة الضخامة من المال ما دمنا نتوقع استمرار أسعار الأصول في الارتفاع. ولقد نشأت فقاعة الائتمان التي انهارت للتو، والتي تغذت على ما أطلق عليه الأدوات الاستثمارية الخاصة والمشتقات والتزامات الدين الإضافية، استناداً إلى الأوهام التي تجسدت في مثل هذه النماذج الحسابية.

يرى المؤرخ آرثر شليزنجر أن الدورات المتحررة تستسلم لفساد السلطة، وأن الدورات المحافظة تستسلم لفساد المال. وكل منهما له فوائده وتكاليفه.

ولكن حين ننظر إلى السجل التاريخي فسنجد أن النظام المتحرر الذي ساد أثناء فترة الخمسينيات والستينيات كان أكثر نجاحاً من النظام المحافظ الذي أتى في أعقابه. وباستثناء الصين والهند، البلدين اللذين تفجرت إمكانياتهما الاقتصادية بعد تبنيهما لاقتصاد السوق، كان النمو أسرع وأكثر استقراراً أثناء العصر الكينزي الذهبي مقارنة بعصر فريدمان؛ وكان توزيع ثمار ذلك العصر أكثر تساويا؛ كما كانت القدرة أعظم على صيانة التماسك الاجتماعي والعادات الأخلاقية. وفي مقابل تكاسل قطاع الأعمال كانت الفوائد أعظم.

لا شك أن التاريخ لا يعيد نفسه حرفياً. إذ إن السبل متوفرة اليوم لمنع الاقتصاد من الانزلاق إلى كارثة على غرار أزمة 1929 العظمى. ولكن حين يتوقف النظام المالي عن العمل، كما هي الحال اليوم، وبعد أن تركناه لينظم نفسه وفقاً لأدواته وآلياته الخاصة، فإن هذا يعني بوضوح أننا مقدمون على جولة جديدة من التنظيمات الحكومية. ولسوف تُـترك الحرية الكاملة للصناعات في ظل هذه التنظيمات، ولكن النظام المالي سوف يخضع للضوابط.

إن الدورات التي يشهدها النمط الاقتصادي تؤكد أن الاقتصاد بعيد كل البعد عن كونه علماً. ولا يستطيع المرء أن يفكر في أي علم طبيعي تتراوح المعتقدات المقبولة في إطاره بين قطبين متنافرين. بيد أن ما يضفي على الاقتصاد مظهر العلم يتلخص في القدرة على التعبير عن افتراضاته حسابياً من خلال الاستخلاص من العديد من السمات القاطعة التي تميز العالم الحقيقي.

فقد استخلص اقتصاد العشرينيات الكلاسيكي من مشكلة البطالة افتراضاً مفاده أنها مشكلة لا وجود لها. واستخلص الاقتصاد الكينزي بدوره من مشكلة العجز والفساد في الدوائر الرسمية افتراضاً مفاده أن الحكومات تُـدار بواسطة خبراء يتسمون بالصلاح والمعرفة التامة. أما اليوم فقد استخلص «الاقتصاد الكلاسيكي الجديد» من مشكلة عدم اليقين افتراضاً مفاده أنه قادر على تقليص هذه المشكلة إلى مجازفة محسوبة (أو مجازفة يمكن تلافيها).

باستثناء بعض العباقرة، يسعى أهل الاقتصاد دوماً إلى وضع افتراضاتهم في إطار يتناسب مع الأوضاع الراهنة، ثم يستثمرون هذه الافتراضات في ظل هالة من الصدق الدائم. وهم في واقع الأمر يكرسون جهودهم لخدمة مصالح أهل السلطة، ولا يهتمون عادة بمراقبة الحقائق المتغيرة، وتحبسهم أنظمتهم داخل فخ المعتقدات القويمة.

فحين تتوافق الأحداث مع نظرياتهم، لأي سبب كان، تحظى المعتقدات القويمة التي يعتنقونها بلحظة مجدها. ولكن حين تتحول الأحداث تصبح هذه المعتقدات في نظرهم عتيقة. وكما كتب تشارلز موريس: «إن المفكرين عبارة عن مؤشر متأخر يكاد يكون معصوماً من الخطأ في إرشادنا إلى كل ما نستطيع أن نعتبره صادقاً، ولكن في الماضي».

* روبرت سكيدلسكي، عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ فخري لمادة الاقتصاد السياسي بجامعة وارويك،

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top