يوم تسلم نيكولا ساركوزي مفاتيح قصر الإليزيه كان ملف الهجرة والمهاجرين في فرنسا قد تضخم على نحو لم يسبق له مثيل، وقد يكون الملف الاكثر سخونة على المستوى الأوروبي أيضاً، لاسيما بعد تعزيز الاتحاد الأوروبي في السنوات الأخيرة وانضمام دول جديدة اليه، خصوصاً بعض دول أوروبا الشرقية، الأمر الذي احتاج إلى جهود مشتركة لمواجهة تحديات الهجرة وعلاقة ذلك بقضايا الإرهاب وعبور بعض الإرهابيين الحدود، كما أن المسألة تتطلب جهوداً مضنية على مستوى كل دولة أوروبية أيضاً، خصوصاً موضوع الاندماج والهوية واللغة والدين واحترام الخصوصية الثقافية، إضافة الى احترام اللوائح والمواثيق الدولية بشأن حقوق الإنسان وقوانين اللجوء والعمل الدولية بشأن حقوق المهاجرين والعمال، الأمر الذي يتطلّب بالمقابل احترام المهاجرين للقوانين والأنظمة المرعية، وهذه إشكالات جدية واجهت أوروبا، كما واجهت فرنسا بشكل خاص ودفعت الأمور باتجاه اندلاع أعمال شغب وعنف تكررت خلال السنوات الاربع الماضية.

Ad

ومن جديد قفزت الى الواجهة ما حصل في ثورة الضواحي الباريسية خريف العام 2005، خصوصاً بعد المواجهات الجديدة في محطات قطار شمال فرنسا، بين قوى الأمن وجماعات منظمة من المهاجرين العرب والأفارقة، وخلال دقائق معدودة تحوّلت المحطة الكبرى الى أشبه بكتلة نار مستعرة، حيث سيطر عليها المتمردون، الأمر الذي أعاد الى الأذهان ما حصل في العام الماضي أيضا (2007) من أعمال عنف منفلتة من عقالها، فقد جاءت الأحداث الراهنة وكأنها تتمة لانفجارات الخريف الماضي، ولكنها كانت أكثر تنظيماً.

وحين اندلعت أحداث العام الماضي لم يكن أحد يعرف كيف ومتى ستنتهي، إذ بدت بحكم اتساعها واستمراريتها وكأنها لا نهاية لها، خصوصاً أن المهاجرين يسكنون في مناطق محددة وهي التي طالتها دائرة النيران لدرجة تجاوزت كل التقديرات المتوقعة. وسبب الانفجار العشوائي للنيران وأعمال التخريب في اهتزاز حكومة دومينيك دو فيلبان، التي وقعت وقتذاك في مأزق كبير، وكشفت الأحداث عن هشاشة سياستها إزاء المهاجرين، بل عن قصور السياسة الفرنسية بشكل عام عن تلبية متطلبات الحد الأدنى لحقوقهم، تلك التي تعترف بها الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، لاسيما اتفاقية جنيف حول حقوق اللاجئين لعام 1951 وملحقها لعام 1967، إضافة الى الاتفاقيات الخاصة بحقوق العمال المهاجرين والعمالة المهاجرة، فضلاً عن الشرعة الدولية لحقوق الانسان، ليس في ما يتعلق بالحقوق السياسية والمدنية فحسب، وهي حقوق أساسية، ولكن وهذا مهم جداً ما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ورغم أن الاشتراكيين والشيوعيين شنّوا حملة ضد اليمين الشيراكي عندما راهنوا على عدم وصوله الى قصر الإليزيه في انتخابات عام 2007، إلاّ أن الأحداث كشفت عن أزمة مستفحلة لجميع الحكومات السابقة بحيث تتجاوز اليمين واليسار، الأمر الذي جعل من قضية اللاجئين مشكلة حقيقية تواجه فرنسا ومستقبلها، بل سيتوقف على حلّها إيجابياً إحداث نوع من التطامن الاجتماعي والسعي لاستيعاب التنوع والتعددية الثقافية والدينية، في المجتمع الفرنسي وفي إطار هوية عامة مشتركة، مع احترام الخصوصيات.

ولذلك فإن السعي للحصول على مكاسب سياسية من جرّاء فشل السياسة الرسمية الفرنسية بخصوص المهاجرين وقوانين الهجرة، لم تقتصر على اليمين. بل طالت الجميع ووجهت إصبع الاتهام اليهم، رغم اختلاف درجة مسؤوليتهم، فشخصية مثل لوبان كان يجاهر بعدائه للمهاجرين ويطالب بوضع قوانين صارمة للحد من تدفقهم حتى إن تطلب الأمر إجلاءهم ووضع عقبات جدية أمام استمرارهم، وبنى كل «مجده» على عدائه وتطرفه واستعلائه «القومي»، في حين أن اليسار بشكل عام كان يسعى وإن كان مسعاه شحيحاً إلى تقديم بعض الحقوق للمهاجرين والدفاع عنهم، لكنه لم يتمكن من وضع قوانين وقواعد لتنظيم الهجرة وحماية المهاجرين وتأمين حقوقهم الانسانية كاملة.

عَهِدَ الرئيس ساركوزي، الذي انشغل بحملة دعائية وسياسية «للاتحاد من أجل المتوسط» وبزيارات مكوكية لعدد من البلدان في آسيا وأفريقيا، وبالتقرب من السياسة الأميركية وكأنه يريد أن يؤدي دور توني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق، عهد الى السيدة ميشيل آليو ماري وزيرة الداخلية الفرنسية ملف المهاجرين والهجرة التي برزت كظاهرة شديدة التأثير لاسيما بعد الهجمة الأفريقية للهجرة أخيراً.

ويطلق على السيدة ماري امرأة الخطوط الأمامية، لاسيما بعد مواجهتها ميدانياً أحداث العنف والشغب التي اندلعت في موسم غضب الضواحي الباريسية مجدداً. وقد نجحت المرأة في التعامل بحزم وببعد نظر رغم الأضرار والخسائر الجسيمة التي لحقت بضاحية فيليه لو بيل، وتمكنت من احتواء الموقف دون اللجوء الى العنف أو اطلاق النار، كما حصل في مرات سابقة، لكن المعالجات المؤقتة التي توّصلت اليها وأدت الى تطويق الأحداث لم تكن سوى تهدئة في حين أن المطلوب هو إيجاد حلول جذرية واتخاذ اجراءات طويلة الأمد بشأن الهجرة والمهاجرين!

ولعل الأمر يتطلب إعادة النظر بمفهوم «المهاجر»، فهو ليس متسوّلاً أو بَطِراً جاء لكي يحصل على الرخاء والنعيم الذي تمنحه له فرنسا أو دول اللجوء وعلى حساب مواطنيها، بل لأن أوضاع اللاجئين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بشكل عام ليست على ما يرام في بلدانهم، يضاف اليها مسؤولية فرنسا وغيرها من القوى المتنفذة في ما وصلت اليها أوضاع بلادهم الأصلية، التي اضطرتهم الى الهجرة بسبب الاضطهاد السياسي أو القومي أو الديني أو من جرّاء الفقر والمرض والتخلف وشحة فرص العيش والتعليم وغير ذلك، الأمر الذي يتطلب سياسات استراتيجية لتحسين أوضاعهم والعمل على اندماجهم والتعامل معهم على أساس المساواة وحقوق المواطنة، كما تقتضيها الشرعة الدولية لحقوق الانسان، ومن جهة أخرى العمل على الصعيد الدولي لجعل نظام العلاقات الدولية أكثر عدلاً بتلبية حقوق الشعوب والسعي المشترك لوضع حلول ومعالجات انسانية لمشاكل الفقر والتصحر والبيئة والصحة وغيرها.

وإذا كانت أعمال الشغب في الماضي قد حصلت على نحو عفوي، باعتبارها ردة فعل عامة إزاء السياسات الفرنسية الاستعلائية، إضافة الى اصطدامات مع الشرطة بسبب مطاردات وملاحقات تخص أعمال سطو وسرقة وغيرها، فإن أعمال الشغب الحالية ارتدت طابعاً منظماً هذه المرة تجاوزت فيه المطالب الاعتراضية المعروفة للعرب لاسيما من المغرب العربي (موضوع الحجاب والاقامة واللغة وغير ذلك) والأفارقة الفرانكوفونيين، لتتحول الى عمل تدميري يستهدف إيقاع فرنسا كلّها في أتون أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية وقومية وثقافية غير محسوبة العواقب، لاسيما أن أعمال التخريب الحالية طالت بعض المرافق العامة ومخازن ومحال تجارية كبرى.

وقد كشفت هذه الاعمال مرّة أخرى عن البون الشاسع بين ما يتم الحديث عنه للاندماج وواقع الحال، فلم تستطع السياسات الشيراكية وقبلها الاشتراكية من احتواء المهاجرين أو وضع حد لظاهرة الهجرة أو تنظيمها، كما بقي القسم الأكبر من المهاجرين خارج النسيج الاجتماعي والثقافي الفرنسي، وبقي ملف الهجرة يكبر دون حلول ومعالجات عادلة وانسانية ومستقرة، بل اعتمد على إجراءات ظرفية ومؤقتة ومبتسرة في الأغلب، ولقيت نقداً من جانب العديد من الجهات الدولية والفرنسية المعنية بالدفاع عن حقوق الانسان.

وإذا كانت الحكومات المتعاقبة الاشتراكية واليمينية قد حاذرت من الاقتراب من ملف الهجرة الشائك والمعقد منذ السبعينيات، فإن أحداث 11 سبتمبر الإرهابية الإجرامية قد جعلتها في صميم الأحداث، لاسيما علاقة ذلك بالإرهاب الدولي وتجنيد متطرفين وإرسالهم الى ساحات ساخنة (في السابق أفغانستان وحالياً العراق والى حدود غير قليلة الى الباكستان)، خصوصاً بعد اتساع أعداد المهاجرين وضيق المساحات المعزولة التي يعيشون فيها وشحة فرص العمل وانتشار البطالة في صفوفهم، حيث تصل حسب بعض الإحصاءات الفرنسية الى نحو 40%، وبشكل خاص بين الشباب، الأمر الذي يقود الى التطرف والعنف للتجمعات الإرهابية التي تحاول استدراجهم وتنظيم العشرات منهم باسم «الجهاد المزعوم»، في ظل الفقر وسياسات التهميش والضياع.

لا يمكن للعنف أن ينطفئ ولرد الفعل أن يخمد وللمهاجر أن يندمج دون تلبية حقوقه الانسانية، والتعامل معه كإنسان وتأمين حقوقه السياسية والمدنية، إضافة الى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحقه في الحفاظ على هويته الأصلية وحقه في حماية شعائره وطقوسه الدينية بحرية ودون إكراه، مع ضرورة التزامه بالقوانين والأنظمة المرعية في إطار هوية جامعة مشتركة تحفظ التنوع والتعددية للمشترك الانساني!!

أما على صعيد السياسة الدولية، فيقتضي الأمر تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتنموية في بلدان الأصل وتأمين احترام حقوق الانسان وتطبيق مبادئ المساواة والمواطنة الكاملة، فضلاً عن تلبية حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، الأمر الذي سيساعد على الحد من ظاهرة الهجرة وتدفق المهاجرين، وهو السبب الذي ينبغي على فرنسا الساركوزية والسياسات الأوروبية والغربية عموماً إدراكه والتعامل على أساسه!!

* باحث ومفكر عربي