مازلت مقتنعاً، أن الإنسان إذا ما وضع نصب عينيه أن يكون روائياً محترفاً، فهذا طريق طويل، ضريبته باهظة، والسير فيه يُدمي الروح، وبقدر ما يكون التصميم، يجب أن تكون الرؤية الواضحة، ويكون الهدف، ويكون المسير.

Ad

وفي كل هذا وذاك، ليس من خيار أمام ذلك الإنسان إلا التفرغ لعالم الكتابة وارتباطه الوثيق بعالم القراءة، فبدون القراءة لا تكون كتابة، وهذه معادلة ناجزة لا يمكن الجدال فيها، على أن كلاً من عالم القراءة والكتابة قائم على الوحدة، ولا شيء سوى الوحدة.

الوحدة جليس الأديب، الوحدة حوار فكره المتوقد، الوحدة موسيقى صمته، الوحدة إجابات أسئلته النابتة على امتداد لحظته، الوحدة قدره الأجمل والأتعس، ووحدها الوحدة زاد غده المأمول.

ما بين الأديب والوحدة صداقة حميمة لا تنفك، وما بين الأديب والقراءة صداقة حميمة لا تنفك، وما بين الأديب والكتابة حرب ضروس لا تهدأ ولا تتوقف، وليس له من معين فيها إلا القراءة والوحدة.

نعم، إذا ما ارتضى إنسان لنفسه أن يكون أديباً، فهذا خيار صعب وقاسٍ، وصعوبته وقسوته تأتيان من أنه لا يخصه وحده، بل إن صعوبته وقسوته تمتدان لتشمل محيطه الأسري، وتمسّان أحباءه قبل غيرهم، وهو في توزعه ما بين تعلقه بالقراءة والكتابة، وبين ولائه لأحبابه ووصله بهم، موزع، ومكتوب عليه أن يبقى موزعاً ومعذباً ما حيا.

لا أقول ما أقول لأنني أريد أن أصعّب مهمة الأدب في عيون الأجيال الناشئة، ولا أقول ما أقول لأنني أضخم الأمور أكثر مما تستحق، ولا أقول ما أقول لأنني أتباهى به، لكنني أقول ما أقول لأن تلك هي الحقيقة، ويكفي أن ننظر إلى سيرة أي من الكتّاب العظام الذين تركوا لنا أعمالاً خالدة، وسنرى بوضوح أنهم حين اندماجهم في عالم والكتابة يعتزلون ما حولهم، وكأن الكتابة لا تكون إلا لذاتها، ولا تكون إلا بذاتها! علماً بأن أحد أهم معادلات الكتابة، هي كونها انعكاسا مخايلا وفنيا للواقع، وأنها حياة أخرى تبز الواقع وتتفوق عليه، لأنها تشكل واقعاً أرحم منه، وتقدم لروح الإنسان ما يعجز الواقع عن تقديمه.

نعم الواقع جذر أي كتابة إبداعية، لكن معايشة الأديب للواقع يجب أن لا تأخذه بعيداً عن مهمته الكبيرة التي نذر حياته لها. نعم لا أحد مع فكرة أن يعيش الأديب في برج عاجي معتزلاً نبض الحياة، لكن في المقابل، الانغماس والسير وفق عجلة الواقع، كفيل بأن يأخذ من الأديب أكثر مما يعطيه.

للأديب عين نافذة يقرأ بها واقعه الذي يحيا، وللأديب قرون استشعار طويلة يتلمس من خلالها مشاكل وهموم الواقع ويحللها ويعاود إفرازها بشكلها الفني، بعد أن يخضعها لمعادلة الفن، الأديب صانع للحياة، لذا يجب عليه أن يبقى، ما أمكنه، بعيداً عنها حتى يتسنى له رؤيتها من بعيد، والإحاطة بجوانب صورها، ومن ثم تجميع أجزائها المتناثرة كأصح وأجمل ما يكون.

مازلت مقتنعاً بصعوبة مهنة الكتابة، لكنني، وفي كل يوم، ازداد اقتناعاً بقداسة الكلمة، وهذا يدفعني إلى مزيد من التعلق بالأدب والفن.