أولَ أيام الصبا كنتُ مولعاً بالنحت. أنقلُ الحجارة البيضاء من السُد الحجري على مُنحَدر دجلة المجاور، وأبدأ بالنقر الحذِر. ثمّ ألفتُ التخطيط بالأسود، والرسم بالألوان. في مرحلة المراهقة أدركتني حرفةُ الأدب. حلّت الكلماتُ محلّ الحجارة واللون. بل صحباها على استحياء.
هذا التحوّل على قدر من الغموض. صحيح أن الفنون الثلاثة تعتمد الصورة المُتَخيّلة، وصحيح أن المنحوتة واللوحة والقصيدة تتولّدُ من صراع الفنان مع أدواته: الحجارة، الخط واللون، والكلمات، وصحيحٌ أيضاً أن هذه الفنون تعتمدٌ محاكاة الطبيعة الملموسة من أجل هدف غير ملموس، إلا أن الفارق يظلّ عميقاً وغامضاً في آن. المقاربةُ بين الفن البصري والموسيقى لا تقلّ غموضاً، ولكنها لا تقلُّ إغواءً. حين زرتُ هولندا الأسبوع الماضي، واستجبتُ لطلب جمهرة من مثقفي الجالية العراقية في أن ألقي حديثاً بينهم، فضّلتُ أنْ أتأمل معهم هذه المقاربة بين الفن البصري والموسيقى. كنتُ أفضل الحديث عن علاقة الشعر بالفن التشكيلي، فبين الجمهور شعراء عراقيون وقلة من الموسيقيين، إلا أن المقاربة الأبعد بين الموسيقى والفن التشكيلي كانت أكثرَ إغواءً، لأنها أكثر طرافةً وجِدّة، ولأن غزارة التشكيليين العراقيين في هذه الجالية لافتةٌ للنظر. فعددهم في هذا المنفى الصغير يتجاوز السبعين فناناً. العجيب أن هذه الغزارة لا تخفّ على امتداد المنافي المترامية في العالم، وتتكثّفُ في العراق بالتأكيد. والأعجب أن نسبةً جدْ كبيرة من هؤلاء تتمتع بمستوى فني عال. التقيتُ بشير، وفاضل ونعمة، وقاسم الساعدي، وستار كاووش... فرأيتُ عوالمَ تتعارض، ولكن بتألق، وتتنافس، ولكن برحابة. حين رجعت لندن تلاشت المقاربات في ذهني بين الفن البصري وبين الفنون الأخرى أمام التساؤل المحير عن سرّ هذه الغزارة. لمَ تنفردُ الثقافة العراقية بها في فني الشعر والرسم دون الفنون الأخرى، ولم لا تُضعف الغزارةُ المستوى، والكمُّ الكيفَ والنوع. إن عدد الشعراء العراقيين، على مختلف أجيالهم منذ شعراء التقليد، والريادة، حتى شعراء قصيدة النثر المتأخرين، يفلت من أي إحصاء. كما أن مستويات أصواتهم لا يمكن أن تخضع لمعيار الشعر العربي السائد اليوم، دون أن تخلف هوّةً ملحوظة بين هذا السائد وبينهم. عادة ما يُقال إن الأرض العراقية خصبة بموروث شعري طويل الخبرة، في الكمّ والنوع معاً. ويكفي، من ناحية الكم على الأقل، أن تُلقي نظرة سريعة على موسوعتي (شعراء الغري وشعراء الحلة) المحليتين لتعرف ما أعني. ولكن هذا السبب لا يكفي وحده، لأن الفن التشكيلي، الذي لا يقل غزارة، لا يملك موروثاً طويل الخبرة في العراق. نعم، عرفنا الواسطي الذي انقطع عن التاريخ كما تنقطع جزيرة مهجورة، ثم عرفنا فنون الخط والزخرف الإسلامي. ولكن أي واحد من هذه لا يمكن أن يشكل قاعدة لفيض الفن التشكيلي الذي نعرفه اليوم. أي ينبوع سحري أخرج هذا الدفق من مئات الأسماء، بحيث يتزاحم منهم، في منفى هولندا الصغيرة وحدها أكثر من سبعين رساماً؟ نحن لمْ نتكاثر كالأرانب في حقل المسرح أو السينما أو الموسيقى. ولكننا نفعل ذلك في حقلي الشعر والرسم وحدهما، الأمر الذي يحتاج إلى أكثر من تساؤل متأمل، فإذا لم يكن الأمر وليد دافع ثقافي وتربوي في تاريخنا، فلابد أن يكون وليد دافع داخلي، في كياننا الإنساني، فالعراقي ينفرد بخصائص أخرى غير هذه، ينفرد بازدواجية عنيفة، تجمع بين رقة المحبة، وعنف الكراهية. ينفرد بحماس حاد باتجاه الأفكار العظمى، لا باتجاه قيمة الإنسان كإنسان. ولذا فهو في انتسابه يبدو، إذا حان الحين، معانقاً إيمانه وعقيدته، لا إنسان وطنه المختلف عنه في الفكرة والعقيدة، وهذه الخصائص تصدر عن عمق عاطفي، وتعبيري غاية في التطرف، وهذا العمق ينبوع الشعر والفن معاً. هل يصحُّ هذا الاجتهاد؟ لا يقين لي.
توابل - ثقافات
عن عراقيّة الشعر والرسم!
20-06-2008