حديقة الإنسان: مواطننا الأمين ساسون

نشر في 24-10-2008
آخر تحديث 24-10-2008 | 00:00
 أحمد مطر من بين أسوأ مظاهر فساد العهد «البائد» الجديد في العراق، تبرز ظاهرتان تسملان عيون الأماني وتسفكان دماء الأحلام، وهما: ظاهرة التفريط المريع بثروة العراق النفطية لصالح شركات الاحتلال، وظاهرة إلغاء أو إبادة الأقليات من سكان العراق الأصليين.

ولأن في التاريخ سلوى وعبرة، فإنني أجدني اليوم مدفوعا بقوة إلى استعادة ذكرى رجل عراقي أصيل من الزمن الماضي، كان شديد الارتباط بهذين الموضوعين، وذلك لإظهار الفرق، عند المقارنة، بين وطنيته وأمانته، وبين عمالة وفساد رجال هذا العهد القبيح.

كنت منذ بواكير شبابي أعرف عن هذا الرجل مأثرة وطنية كبيرة ومشهورة، تمثلت في انتزاعه للعراق حقوقا هائلة في نفطه، من بين أنياب الأسد البريطاني المحتل، لكنني، في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وقعت على مآثر أخرى له بفضل كتاب «أعلام السياسة في العراق الحديث» للباحث والأديب العراقي المرحوم «مير بصري» الذي بسط كثيرا من تفاصيل ما عرفه عنه شخصياً أو ما نقله من شهادات لمن عرفوه أو عملوا معه.

هذا الرجل «الأمين» المتحدر من «الأقلية» اليهودية هو مواطننا «ساسون حسقيل 1860ـ 1932» .. وزير المالية في أول حكومة عراقية تألفت بعد تأسيس النظام الملكي عام 1921.

ومن الدلائل الواضحة على كفاءة ساسون، إضافة إلى تحصيله العلمي في حقول الإدارة والاقتصاد والدبلوماسية والحقوق، أنه كان، في زمن سيادة الأمية حينذاك، يتقن إلى جانب لغته العربية ست لغات أجنبية هي التركية والفارسية والعبرية والإنكليزية والفرنسية والألمانية، كما كان يلم أيضا باللغتين اليونانية واللاتينية!

والشاهد على عمق ثقافته تؤكده مكتبته الخاصة التي احتوت آلاف الكتب في السياسة والاقتصاد والتاريخ واللغة والأدب، كما أن ثقافته العربية والإسلامية كانت هي الأخرى واسعة جدا، حيث ضمت مكتبته أمهات الكتب العربية التي شملت طبعات متعددة للقرآن الكريم وكتب الحديث والسيرة ومعجمات اللغة، إضافة إلى المئات من كتب الأدب ودواوين الشعر وسائر أسفار التراث.

ولابد، في هذا السياق، من أن نذكر بأسف وخجل أن الحكومة العراقية قد استولت على مكتبة هذا الرجل في ستينيات القرن الماضي ـ بعد «نزع الجنسية» عن أفراد أسرته ـ وضمها إلى مكتبة دار الآثار!

ومبعث الأسف والخجل، عند ذكر هذه الواقعة، هو أن سيرة ساسون المهنية تقدمه لنا باعتباره واحدا من أكثر العراقيين شرفا ووطنية، على مر أدوار تاريخ العراق الحديث.

دعك من ذلك، ولنأت إلى المطلب الأساسي من هذا الحديث، وهو ما يتعلق بحزم وأمانة وإخلاص وزير ماليتنا الأقدم، وذلك ما تكشفه لنا هذه الواقعة الدالة التي يقدمها لنا «مير بصري» كشهادة على لسان «صفوت باشا العوا» ناظر الخزينة الملكية الخاصة:

يقول صفوت العوا: «إن نفقات فصل البريد والبرق المخصصة للديوان الملكي سنة 1925 قد نفدت قبل أشهر من ختام السنة... فقد كانت الحرب الحجازية النجدية قائمة على قدم وساق، وكانت البرقيات ترسل يوميا من البلاط الملكي العراقي إلى الملك علي في الحجاز لمعرفة الموقف الحربي، فكتب الديوان الملكي إلى وزارة المالية يسأل الموافقة على نقل مبالغ من فصل آخر في الميزانية المصدقة إلى فصل البريد والبرق تلافيا للمصروفات الطارئة، لكن في أعقاب ذلك الطلب دخل عليّ وزير المالية ساسون أفندي ثائرا، ينتقد كثرة النفقات ويعترض على نقل الاعتماد، وقد أسرعت إلى تهدئته وشرح الأسباب التي تبرر الطلب، وهو لا يزيد إلا حدة وجدالا، فقلت له إن جلالة الملك في الغرفة المجاورة، فاخفض صوتك لئلا يسمعنا، ثم قلت له أن يتناسى الطلب.

وفي اليوم التالي دخلت على الملك فسألني، وكان قد سمع حوارنا، لماذا كان ساسون هائجا بالأمس؟ فحاولت أن أخفف من وقع الأمر، لكن الملك قال: إنني مبتهج لموقف وزير ماليتي وصلابته، فإذا كان يقف مني هذا الموقف الشديد، فأنا مطمئن إلى أنه يقف موقفا أشد تجاه سائر الوزراء والموظفين لأجل التمسك بالقواعد المالية الصحيحة والحرص على خزينة الدولة».

كان ذلك موقف وزير المالية سنة 1925، يوم كانت ميزانية الدولة العراقية لا تتجاوز خمسة ملايين دينار.. أي بواقع دينار واحد سنويا لكل فرد عراقي، ومع ذلك كان الناس يشربون الماء النظيف، وكانوا يأكلون، وكانت الشوارع تفتتح، وكانت المدارس تُبنى، وكانت السدود تقام لدرء الفيضانات، وكانت الدولة ترتفع درجة في كل يوم!

أما الآن.. في عهد «الحرية!» المدرع بميزانية تتجاوز الثمانين مليار دولار، فيحسن بنا أن نمسك عن التعليق، ونكتفي بفتح القراءة الخلدونية، لنقرأ الدرس التالي: «قدري قاد بقرنا» مضمرين في أعماقنا أن «قدري» أقدارنا هذا إنما يقود البقر إلى المرعى في كتاب القراءة فقط، أما في واقعنا الجميل الراهن فإنه لا يقودها إلا إلى أشداقه أو أشداق الهاوية!

أما بالنسبة للواقعة المشهورة التي كان بطلها ساسون حسقيل والتي تمثلت في موقفه الصلب والعنيد خلال «مفاوضات النفط» مع بريطانيا العظمى التي كان العراق واقعا تحت انتدابها، فهناك شهادة جانبية يقدمها الشيخ محمد رضا الشبيبي، وزير المعارف في تلك الحكومة... وهو للمناسبة مسلم شيعي معمم، مما يعني أن تلك الحكومة المبكرة كانت تُعنى باستقطاب أصحاب الكفاءات فقط، دون النظر إلى أديانهم أو مذاهبهم أو قومياتهم! وقد كانت شهادة الشبيبي تتعلق بإصرار ساسون في تلك المفاوضات على مساهمة الحكومة العراقية في الشركة المستثمرة، وعلى وجوب دفع العائدات للعراق على أساس «الذهب» لا العملة الورقية.

يقول مير بصري: «حدثني محمد رضا الشبيبي فقال إن رئيس الوزراء ياسين الهاشمي سأل ساسون بصورة خاصة، لماذا تصر على المساهمة في رأسمال شركة النفط، وأنت تعلم أن الخزينة خاوية وليس لدينا المال اللازم لذلك، فضلا عن وجود تركة الديون العثمانية التي لم يسدد العراق نصيبه منها؟ فقال ساسون: «إن الأمر بسيط، فإذا أُجبنا إلى طلبنا وخُصصت لنا حصة في رأس المال، فسيمكنني رهن تلك الحصة في الأسواق المالية العالمية والحصول على قرض يربو على قيمتها»!

أما بخصوص الدفع على أساس الذهب، فقد ناقشه ممثلو الشركة والموظفون الإنكليز في وزارة المالية مناقشة شديدة، وقالوا إن قاعدة الذهب نظرية قديمة بالية، فقال ساسون: «أجل إن ذلك صحيح، لكنني أتمسك بها لأنني أنا أيضا رجل متحجر الفكر من بقايا العهد العثماني الزائل».. ولم يتزحزح عن موقفه قيد شعرة، حتى إذا ما قبلت لندن برأيه وسجل النص في اتفاقية النفط، أرسل إلى أولئك الموظفين أحدث الكتب الاقتصادية الإنكليزية وفيها تأييد لرأيه.

وكان من أثر تصلبه في تلك المفاوضات أنه لم يُستوزر بعد ذلك قط!! لكن كفاه شرفا وذكراً طيباً أنه، بتثبيت ذلك النص، قد حفظ للعراقيين عائدات نفطهم كاملة غير منقوصة، بعد انهيار العملة الورقية البريطانية في الأعوام اللاحقة.

وليس لنا هنا أيضا إلا العودة إلى القراءة الخلدونية لنقرأ الدرس التالي: (وقع الولد من فوق البرميل).. ويا عمنا ساسون إن «الولد» هذا عراقنا الذي حفظت ثروته لتكون من بعدك مشاعا لمختلف أنواع اللصوص من مختلف «الأغلبيات» الدينية والمذهبية والعرقية. وأما «البرميل» فهو برميل نفطنا وأنت خير العارفين بأن الوطن لا يمكنه التوازن فوقه، وأنه لابد أن يسقط إن لم يكن يسنده رجل كفء وأمين ووطني مثلك.

ولعل رميمك سيضطرب في مرقده، عندما أنبئك بأن آخر إبداعات عهدنا البائد الجديد هو بيع مواقع من الاحتياطات النفطية بأرضها ومحتوياتها البالغة أربعين مليار برميل، للشركات الأميركية والبريطانية. مقابل بضعة مليارات من الدولارات الورقية ذات القيمة المنحطة.

ستتساءل روحك مذعورة هل جُنّوا؟! فأجيبك كلا، بل وضعوا عقولهم في رؤوسهم فحكمت بأن يضعوا هذا الثمن في جيوبهم استعدادا للهروب الجماعي المرتقب، فمليار في الجيب خير من ألف مليار على ذمة الغيب، وليسقط الولد بعدهم من فوق البرميل، أو فليبق مترنحاً فوقه الى أبد الآبدين.. وما شأنهم به؟ إنهم مجرد زوار ليل طائرين، ثم إنهم لا يحبون القراءة الخلدونية أصلا، ولا يعرفون من كل القراءات سوى قراءة الفاتحة على أرواحنا، ولا يعرفون من الكتابة سوى كتابة «الشيكات» بدمائنا، من أجل أرواحهم وأرواح من خلّفوهم!

* شاعر عراقي

تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية.

back to top