حديقة الإنسان: أصدقاء رائعون
لقد أعادتني كلمات «درايفر» إلى مذكرات نيلسون مانديلا الذي قدم في أمثال هؤلاء الشبان شهادة رائعة، يصعب أن تصدر ممن غطس طيلة حياته في هوان العبودية تحت مقارع عنصرية البيض.من وحي صورة فوتوغرافية يعود تاريخ التقاطها إلى عام 1962 كتب الرّوائي والشاعر البريطاني «سي. جي.درايفر» مقالة تشبه رواية مكثّفة، في العدد الثمانين من مجلّة «غرانتا» الأدبية الفصلية.
المقالة عنوانها «كنّا أصدقاء رائعين» وهو بالضبط ما تعكسه الصورة التي تتقدم النص الذي خطه درايفر من وحيها: تسعة أصدقاء في العشرينيات من أعمارهم، متحلقون حول مائدة في مطعم. جميعهم تقريبا يبتسمون ابتسامات عريضة، وهم يتطلعون إلى عدسة الكاميرا، بزهو الفتوة المطمئنة في ربيع العمر ودعة الحياة.غير أن الروح تدب تدريجيا في تلك الصورة الجامدة، تبعا لسحر حركة القلم في يد الكاتب، فإذا ما وصل المرء إلى النقطة الأخيرة في الصفحة العشرين من المقالة، تجلّى له ما كان مخبوءاً وراء تلك الوجوه الناعمة المبتهجة، من مصائر عاصفة المحن، فإذا بأولئك الفتيان المبتسمين قد تفرّقوا على دروب نهايات مريرة، تبدأ بالاعتقال وتمرّ بالتعذيب أو القتل، وتنتهي إلى المنافي التي اتخذها بعضهم أوطاناً إلى الأبد، ومنهم درايفر نفسه، الذي لولا حضوره في «الصورة» وتواصله، بطريقة أو بأخرى، مع من ضمتهم، ولولا كفاءته الأدبية، لما تيسّر لهؤلاء الشبان من يقدم عنهم شهادة منصفة نظير ما بذلوه من أنفسهم من أجل الإنصاف!منذ السطور الأولى ينبئنا درايفر بأن الصورة التقطت لمناسبة احتفال أحد الأصدقاء الظاهرين فيها، بعيد ميلاده الحادي والعشرين، وذلك في مطعم صيني في كيب تاون بجنوب أفريقيا، وينبهنا كذلك، بغيظ واضح، إلى عدم وجود أي شخص أسود معهم،برغم أن بعضهم يرتبط بصداقات مع شبّان سود، وذلك لأنه في ذلك الزمن، لم يكن في كيب تاون كلها سوى مطعمين فقط يسمحان باستقبال البيض والسود معا، ولم يكن ذلك المطعم الصيني واحداً منهما.ما يجمع أولئك الأصدقاء- وهم جميعا من الأفريكان البيض- هو حدّة الوعي الإنساني لديهم بمشكلة السود في جنوب أفريقيا، ووقوفهم جميعا ضد الفصل العنصري، وتدرّجهم في ذلك الموقف من التعاطف عن بعد، إلى التضامن الفعلي، إلى الاحتجاج اللفظي، إلى النضال الحقيقي الذي أورد بعضهم المهالك، وقضى على بعضهم بالاعتقال الطويل والتعذيب، ودفع البعض الآخر للهرب إلى الخارج بعد الاعتقال، ومنهم كاتب المقالة الذي استقر نهائيا في بريطانيا واتخذها موطنا له. يختتم «درايفر» مقالته بكلمات مشحونة بالعاطفة، تمشي كنشيد جنائزي فوق السطور... هي كلمات رثاء لصديقة الظاهر في مقدمة الصورة وهو يبتسم بعنفوان: «عندما أنظر إلى تلك الوجوه التسعة النابضة بالحياة، فإن من أراه بكل وضوح هو «ريك تيرنر» وأتخيل، ثانية، اللحظة التي قرع فيها جرس باب بيته، فقام من الأريكة، حيث كان يجلس، وتوجه نحو الباب الأمامي الذي كان يقف وراءه شخص مبهم يحمل بندقية... إنني أتساءل: هل أدرك؟ هل ترددّ؟ ليس هناك جواب ممكن، وليس هناك جواب ضروري».و«تيرنر» في سياق المقالة هو واحد ممن اغتالتهم السلطة البيضاء، بسبب نضالهم ضد الفصل العنصري. وإذا كانت صورة واحدة قد حدثتنا بكل هذا، فما أكثر الصور التي لم تجد راوياً يبعث الحياة فيها، وما أكثر الصور التي لم تلتقطها عدسات الكاميرات، أو أشرطة مسجّلات الصوت؟ليس في الدنيا ما هو أجمل وأرقى من العدل والإنصاف والإخلاص لقضيّة الإنسان،وليس في الدنيا من هو أطول عمراً ممن ينحاز إلى هذه المعاني، حتى لو مات مبكرا من أجلها.لقد أعادتني كلمات «درايفر» إلى مذكرات نيلسون مانديلا الذي قدم في أمثال هؤلاء الشبان شهادة رائعة، يصعب أن تصدر ممن غطس طيلة حياته في هوان العبودية تحت مقارع عنصرية البيض... لكنه واحد ممن وهبهم الله جمال العدل والإنصاف والإخلاص لقضية الإنسان.فعلى رغم كل ما كابده مانديلا من مرارة العذاب في سجنه البغيض طيلة سبعة وعشرين عاماً، لم يفته أن يرى- ولو لثانية واحدة- براءة الإنسان الفطرية حتى في نظرات أو سلوك بعض سجّانيه، فادخر رؤيته تلك، على ضآلتها، لتدعيم ثقته بالجنس الإنساني، ولترميم ذاته في أشد انهيارها، وادخارها كذلك لهؤلاء السجانين كمسوغ للصفح ونسيان الماضي من أجل التطلع إلى المستقبل.ومانديلا الذي لا يجهل أنه أصبح أسطورة، لا يتردد عن التأكيد على أنه مجرد إنسان عادي صنعت ظروف الظلم أسطورته، وأنه مدين بذلك للكثيرين ممن لقوا حتفهم في السبيل، ولا يتورع عن أن يضع في رأس قائمة هؤلاء الأبطال عددا كبيرا من أجل تحرير مواطني جنوب أفريقيا السّود، وتحرير أرض هؤلاء من سطوة إجرام الأقلية البيضاء.وفي ذلك يقول مانديلا إنه كان يقاتل من أجل رفع الظلم عن شعبه الأفريقي، لكن أولئك البيض كانوا يقاتلون شعبهم الأبيض من أجل رفع الظلم عن شعب مانديلا.. وشتان بين موقف المضطر وموقف المتطوّع.وعلى هذا فإن هؤلاء البيض، في نظر مانديلا، هم الأولى بوصف البطولة.* شاعر عراقي