أي نقد للقومية العربية؟
لعل للعرب مصلحة قد تكون أكبر من غيرهم في الفصل بين القومية والعربية والتمييز بين النقد الموجه لواحدة والنقد المواجه للأخرى، هذا للأسف ما لا يتبينه أكثر القوميين العرب، ولعل أكثر نقاد القومية العربية لا يتبينونه أيضا. الأولون يعتبرون أي نقد للقومي العربية، طعنا جوهريا في العرب، رغم أن القومية شكل سياسي وإيديولوجي تاريخي للرابطة العربية يمكن لها أن تتشكل بغيره.
يمكن توجيه نقدين مختلفين للقومية العربية فكرة وحركة، اليوم والأمس: نقد أول ينصب على المذهب القومي بما هو كذلك، وبما في ذلك نزوعه التوسعي المتأصل والإقصائي الذي لا يقل تأصلا وتمركزه الدائم حول الذات وارتباطه الدائم أيضا بالحرب والعسكرة وعبادته للدولة؛ ونقد آخر ينصب بالأحرى على العرب، على تفرقهم وتخلفهم وضآلة وزنهم الدولي وعلى ظلمهم لأنفسهم ولبعضهم وجورهم على غيرهم وعلى أشكال تدينهم المتشددة والعنيفة وعلى انتشار الاستبداد في أكثر أشكاله وحشية في ظهرانيهم وعلى سفاهة كثيرين من ميسوريهم، الحاكمين منهم والخواص. كلا النقدين مشروع ومطلوب. ما ليس مشروعا هو أن نخلط بينهما. إن محذور النقد الأول هو أن ننتقد القومية العربية لأنها عربية لا لأنها قومية، فيفوتنا ما في القومية العربية من أوجه شبه كبيرة بأي حركات قومية ممكنة معاصرة أو سابق، ونلبّس على القارئ أننا ننتقد القومية العربية والقوميين العرب («القومجيين» كما يفضل البعض) فيما نحن نطعن في كل ما هو منسوب للعرب. أما المحذور الأساسي للنقد الثاني فهو الجوهرانية، أعني افتراض أن نواقص العرب المعاصرين، وهي وفيرة بلا ريب، متأصلة في عنصرهم أو ثقافتهم أو لغتهم أو دين أكثريتهم. قليلون من يقولون ذلك تماما، لكن للإلحاح المستمر على ثلب كل ما يتصل بالعرب والعروبة مفعول بناء العرب على النقص والقصور، كأنما ينبثق ذلك من جوهر ثابت لهم لا يتبدل . والحال إن نقدا للعرب يتجنب ذلك المحذور ضروري، خصوصا إن مارسه عرب، وبالأخص بقدر ما يتحرر هذا النقد من التورط العاطفي الإيجابي أو السلبي في المنقود، أعني من التماهي المطلق والعجز عن الانفصال عن الذات (فيمتنع النقد أو يكون «نقدا خجولا») من جهة، كما من التماهي المضاد والميل إلى الانفصال المطلق والعدوانية (يمتنع النقد أيضا ويغدو عدوانا) من جهة ثانية. وبنقد العرب أعني نقدهم كثقافة، كما نقد واقعهم ودولهم. لا قيد على هذا النقد سوى الانضباط بقيم عامة يفترض أن ينضبط بها ذاتها نقد أي دول ومجتمعات وثقافات أخرى. ولعل للعرب مصلحة قد تكون أكبر من غيرهم في الفصل بين القومية والعربية والتمييز بين النقد الموجه لواحدة والنقد المواجه للأخرى. هذا للأسف ما لا يتبينه أكثر القوميين العرب. ولعل أكثر نقاد القومية العربية لا يتبينونه أيضا. الأولون يعتبرون أي نقد للقومي العربية، طعنا جوهريا في العرب، رغم أن القومية شكل سياسي وإيديولوجي تاريخي للرابطة العربية يمكن لها أن تتشكل بغيره. فإذا لم نفصل بين الشكل والرابطة الحية (اللغة والثقافة والتعاطف...) جازفنا بأن يكون مصير العروبة هو ذاته مصير القومية، أي أن يتبعثر العرب ويفقدوا أي رابطة معنوية بينهم لأن الصيغ السياسية لرابطتهم المشتركة تتعثر أو فات وقتها أو هي غير ملائمة للربط بينهم. بل إنه يمكننا القول إن الفصل بين القومية والعروبة، وليس الربط بينهما، هو ما من شأنه أن ينقذ العروبة أو الروح الحية من الإرهاب التاريخي العارض. وبضيق أفقهم الغالب يشارك القوميون بعض أعداء العروبة الذين يستخلصون من انسداد أفق الحركة والفكرة القومية العربية إنكار الوقائع العربية نفسها أو التقليل المطلق من شأنها أو التلهف على إثبات أنها فكرة خاطئة، يشاركونهم الربط المحكم بين القومية العربية والعروبة. لكن فيما ينتظر القوميون زمنا قوميا جديدا، تلتقي فيه العروبة الهائمة صورة سياسية تسكن إليها، يتعجل خصوم القومية العربية إثبات أن العروبة فشلت لأن الفكرة القومية فشلت، هذا إن لم يمضوا إل حد القول إن العرب ذاتهم فكرة خاطئة لا شأن لها. والحال، ليس هذا مثالا نادرا لتحالف الخصوم. نتذكر مثلا بسهولة أن الإسلاميين الذين يعرّفون مجتمعاتنا بالإسلام حصرا هم شركاء لأشد الغربيين عداء لمجتمعاتنا وللإسلام في الميل إلى تعريفنا أيضا تعريفا مستنفدا بالإسلام. ومن السهل أيضا إثبات أن أعداء الغرب الماهويين بيننا يشبهون أعداءنا في الغرب أكثر مما يشبهون النقاد الغربيين لمجتمعاتهم وثقافاتهم وسياسات دولهم. والقوميون العرب الذين يفضلون أن يستشهدوا كثيرا بنقد نعوم تشومسكي للسياسة الأميركية يشبهون خصومه الأميركيين الذين يصفه بعضهم بأنه «يهودي كاره لذاته» أكثر مما يشبهونه هو ذاته. تشومسكي ينتقد جماعته، وأصحابنا ينتقدون جماعته أيضا، فيما موقفهم من جماعتهم قَبَلي، يغوي إن غوت القبيلة ولا يرشد إلا أن رشدت. كاتب هذه السطور شريك في نقد القومية العربية والتحفظ عليها. لكنه ينتقدها لأنها قومية لا لأنها عربية. هو لذلك ينتقد أيضا عقيدة «سورية أولا»، وهذه نزعة قومية أخرى، تنزع نحو التفكير في سورية ككيان مصمت وإلى مطابقتها بالدولة، وإلى وضعها في تقابل قطبي مع العروبة. وهي بالطبع الأخت العدوة لنزعات قومية مماثلة من صنف «لبنان أولا» و«الأردن أولا» و«مصر أولا». أما من ينتقدون القومية العربية، ثم ينحازون إلى قوميات سورية ومصرية ولبنانية.. فهم يمارسون ضربا من الغش: يوحون أنهم ينتقدون القومية العربية فيما هم يعترضون على كل ما يتصل بالعرب. وهم فوق ذلك يأخذون أسوأ ما في القومية، تمركزها حول ذاتها وأنانيتها واحتفاءها بنفسها، ويتركون روحها الحية، أي الالتزام بالتضامن مع بشر محسوسين، نشاركهم اللغة وما تحمله من بنى شعورية ونفسية. * كاتب سوري