Ad

بعد أن كنا نطالب بحل إنساني لقضية البدون، ها نحن ندخل في حلبة الحلول التجارية، ونبتعد أكثر فأكثر عن لُب الموضوع. ولن نستغرب والحال كذلك، أن يخرج علينا مَن يقول: فلنرسل البدون إلى القمر نفسه بدلاً من الجزر!

* مَن يرصد بعض ردود الفعل العربية على طلب المدعي العام الدولي من المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس السوداني يأخذ انطباعاً بأن أنظمتنا العربية هي أنظمة ديمقراطية، تحترم الإنسان، وتضع العدالة في أعلى سلم أولوياتها. كما أن رصداً لردود الفعل تلك يدل على أن أنظمتنا العربية مازالت غير قادرة على استيعاب التطورات الجذرية في منظومة القانون الجنائي الدولي منذ بداية التسعينيات.

فمن غير المفهوم إثارة موضوع الانتقائية في الوقت الذي لم تتحرك فيه جهة عربية واحدة لتحريك دعوى أو شكوى ضد جرائم إسرائيل في فلسطين مثلاً، أو حتى ضد الولايات المتحدة في العراق، ففي إطار المحكمة الجنائية الدولية التي انشأتها اتفاقية روما يبقى الباب مفتوحاً لمثل تلك الدعاوى، فلماذا يا ترى لم يتحرك أحد؟ ولماذا لم يطرق أي من المعترضين ذلك الباب؟

أوَليس من المستغرب أن مجمل الدول العربية كانت قد تحالفت مع إسرائيل والولايات المتحدة لوأد المحكمة الجنائية الدولية أثناء نقاشات اتفاقيتها في روما؟ أليس من المستغرب أيضا ألا ينضم إلى تلك الاتفاقية من الدول العربية إلا الأردن وجيبوتي، وكان ذلك قبل بروز موضوع دارفور بزمن طويل؟!

ولعلنا نستوعب الموقف الأميركي والإسرائيلي المعادي للمحكمة، فكلاهما لديه الكثير مما يخشاه من المحكمة، والخشية من تطور نظام عدلي دولي أكثر استقلالية وأكثر مصداقية، ولكننا لا يمكن في المقابل أن نستوعب موقف معظم الدول العربية، التي يفترض أنها في موقع الضحية، اللهم إلا إذا كان لديها ما تخشاه من ممارسات لا إنسانية قد ارتكبتها تلك الأنظمة داخل حدودها.

***

* البدون والقمر

جاء رفض برلمان جزر القمر لمشروع قانون بمنح حوالي 4000 أسرة من البدون على طريقة المضحك المبكي، فالمشروع برمته هو مشروع تجاري تقدمت به شركة استثمارية إلى حكومة جزر القمر، فبعد أن كنا نطالب بحل إنساني لقضية البدون، ها نحن ندخل في حلبة الحلول التجارية، ونبتعد أكثر فأكثر عن لُب الموضوع. ولن نستغرب والحال كذلك، أن يخرج علينا مَن يقول فلنرسل البدون إلى القمر نفسه بدلاً من الجزر!

فقد بدأت شركات طيران متخصصة في استقبال حجوزات الراغبين في الذهاب إلى القمر، إذ سيبدأ تسيير تلك الرحلات قريباً جداً، حينها لن تكون هناك حكومة «قمرية» تمنع أو تمنح، وحينها يستطيع البدون أن يعيشوا على سجيتهم، وربما يتمنى بعضنا حينها الحصول على جنسية القمر، وليس جزر القمر.

وفي هذه الحال التائهة، نفت حكومتنا الرشيدة أي مساعٍ لها أو اتصالات مع جزر القمر بخصوص مشروع تجنيس البدون. وعلينا أن نصدق ذلك النفي، فالمشروع كما ذكرنا هو مشروع تجاري استثماري لا علاقة للحكومة به. ولكن هل لحكومتنا ذاتها نفي رعايتها وتشجيعها على مدى سنوات لمكاتب بيع الجوازات المزورة للبدون داخل الكويت، واستمرارها في نشر إعلاناتها في الصحف المحلية حتى تكونت لدينا فئة جديدة من البدون تقدر بالآلاف، وهي فئة البدون من حملة الجوازات المزورة؟ وقامت الأجهزة الأمنية لدينا بختم الإقامات الرسمية على صفحات تلك الجوازات مع علمها يقيناً بأنها مزورة، وتكررت بموجب ذلك مفارقات عجيبة غريبة، كأن يتم وضع إقامات للشخص نفسه في أكثر من جواز لجنسيات مختلفة يحملها الشخص ذاته، فتارة يكون الشخص ليبيريا، وبعد أن تنتهي مدة جوازه يشتري جوازاً مزوراً آخر لجنسية أخرى، ويحصل على إقامة رسمية أخرى وهكذا... فمَن يا تُرى يستهتر بأمن البلاد؟

إن الاستمرار في مثل هذه الحلول الترقيعية لا يدل إلا على حالة الفشل والعجز في التعامل مع واحدة من أخطر قضايانا، مع أن الحل واضح، وهو المدخل الإنساني من خلال تجنيس مَن يستحقون والتعامل بإنسانية مع غيرهم، ولا يمثل الإبطاء في حل هذه المشكلة، إلا ذراً لمزيد من الملح على جرح غائر مفتوح.