ليس من المفيد تكرار بديهيات ما كتبته الصحف العالمية والمحلية، وماتزال، عن مغزى ومؤشرات وأسباب انتخاب ديمقراطي لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية، وبالذات باراك أوباما ذو الأصول الإفريقية السوداء الذي يمكن أن يبيّض وجه السياسة الأميركية التي لطخها عهد بوش بالسواد من كل جانب.
البعض وصف الحدث بالزلزال الذي يبني ولا يدمّر. والبعض الآخر قال عنه إنه انتصار للولايات المتحدة على نفسها ومصالحتها مع تاريخها الأسود الذي تسبب بأول وآخر حرب أهلية لتحرير الزنوج من زندقة الرّق الأبيض. كذلك هناك من قال إن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة هم المنتصرون اليوم بعد أن تجسدت شعاراتهم بأوباما صاحب الوجه الأسود. وهناك أيضاً من ردد، ومازال يردد، أن الفائز الأول والأخير هو روح الديمقراطية الحقيقية وليس وجهها المزيف. ولو كان هذا القول الأخير صحيحاً، وهو في الظاهر هكذا، فإنه يعني شيئاً مهماً جداً: أن الديمقراطية، شأنها شأن الكثير من أساليب الحياة الاجتماعية، تخطئ في كثير من أعمالها، لأنها في حركة عمل دائم، ومن لا يعمل لا يخطئ... لكن هذه الأخطاء يمكن، بل يجب إصلاحها في إطار الديمقراطية ذاتها لا عن طريق إلغائها. فالديمقراطية هي قدر الإنسان مهما اختلف لونه وانتماؤه، وقد تعلمنا على مدى التاريخ أن القدر محتوم قد يتأخر في القدوم، لكنه حتماً واصل.هذه الأقوال كلها وغيرها مما نسيت ذكره صحيح. لكن الأكثر صحة هو أن فوز أوباما بشكله ومحتواه التاريخيين قد حجز مقعداً للولايات المتحدة في القطار السريع نحو زعامة عالمية مبنية ليس على الثراء أو قوة العضل أو الاستعلاء أو التفرد النابع من جشع بغيض والقائم على شن الغزوات الخبيثة الواحدة تلو الأخرى على شعوب ضعيفة لا حول لها ولا قوة، لإخضاعها تمهيداً لسرقة كل ما تملك. باختصار... إن فوز أوباما يشكل عودة الروح للولايات المتحدة، وتلك معجزة لا تحدث سوى مرة واحدة، فهل تأخذ أميركا القوية العبرة مما حدث لها وتعود إلى جادة الصواب؟ لا أدري، ولا البنيّة تدري. لكنني اتمنى أن تستغل الولايات المتحدة معجزة عودتها إلى الطريق السليم حرصاً عليها وعلى السلم العالمي. إن الأيام والأشهر المقبلة كفيلة بأن ترد على هذا التساؤل، لكنني لست متفائلاً إلى درجة السذاجة، فالمتغيرات التي حصلت بعد الانتخاب تثبت أن الوجوه قد تبدلت لكن الملامح البشعة ماتزال على ما هي عليه. وإلى أن يثبت عكس ذلك، دعونا نغرق أنفسنا في نعيم التفاؤل الذي افتقدناه طويلاً.ان الجميع مدرك أن انتخاب أوباما الأسمر (وهو وصف أكثر إنسانية وتهذيباً من أوباما الأسود) قد أنهى لعبة قديمة مع قواعدها القائمة على الغزو والقتل وسرقة الثروات حيث بدأت في العالم لعبة جديدة بقواعد جديدة قائمة على التعددية ووقف اللصوصية. وسواء أدركت الولايات المتحدة هذه الحقيقة أم لم تدركها بعد. وسواء كان تغيير اللعبة وقواعدها هدف أوباما الحقيقي (أشك بذلك) أم أنها- بالنسبة له- جاءت ضربة حظ عمياء، فإن هذه اللعبة العالمية قد وُلدت بصحة جيدة وستستمر في النمو بالرغم مما قد تلاقيه في دربها من عثرات وتعثرات. إن الشروط الواضحة لهذه اللعبة هي عدم الانفراد بحكم الكرة الأرضية واستبدال هذا التفرد بالتعاون والتفاهم والتضامن مع القوى العالمية الأخرى مما يمكن تسميته بـ»التعددية العالمية». وإذا خرجت الولايات المتحدة عن هذا المنطق العقلاني الجديد، وتجاهلت ولادة المولود العالمي، فإنها سوف تجد نفسها في المستقبل القريب والمتوسط وحيدة... وستندم.لقد ألمح أوباما في عزّ حملته الانتخابية إلى أنه يفهم ويدرك حقائق اللعبة الجديدة وأنه مستعد لأخذ مقعد الريادة في هذه اللعبة. ثم بعد ظهور نتائج الانتخاب وقبل وصوله إلى البيت الابيض ألحق هذا التلميح بأكثر من تصريح. ولقد علمتنا الولايات المتحدة أن منظر البيت الابيض من الخارج يختلف تماماً عن الداخل. فهل ينطبق ذلك على أوباما أم أنه سيسعى إلى تغيير هذه القاعدة أيضاً؟ ذلك هو امتحان أول لرجولة أوباما التي ظهرت بأجلى معانيها خلال فترة الانتخابات. والرجل، في مجتمعنا الشرقي على الأقل، يقاس بصدقه وبحسن نواياه وبثباته على أقواله وعلى ما وعد به. فإذا نجح أوباما في هذا الامتحان الأولي الصعب يكون قد اختصر أو ألغى الكثير من العقبات الكأداء التي سوف تقف في طريقه. وإذا فشل يصبح أوباما رئيساً تقليدياً آخر للولايات المتحدة لا طعم له ولا رائحة. بل أكثر من ذلك يكون قد خنق بيديه الاثنتين مولوده السياسي الأول وهو في المهد، وأجهض فكرة المصالحة بين البيض وبين السود في المجتمع الأميركي... تلك المصالحة التي يمكن أن تكون الجسر الوحيد لعودة المبادئ الأميركية في الحرية والاستقلال والديمقراطية واحترام الشعوب- مهما كانت صغيرة- وبالتالي انتشار وتعميم هذا المبدأ في الأرض العطشى شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً. الحقيقة فإنني من جماعة المحبين القلقين الذين يضعون أيديهم على قلوبهم في مراقبة تطور أحداث ما بعد الفوز. تلك الأحداث التي تشكل النتائج الأولية لامتحان أوباما الصعب. وفي مطلق الأحوال لا أنتمي إلى جماعة المتشائمين. ذلك أن التشاؤم بسبب أو من دون سبب حالة مرضية بحاجة إلى علاج طبي. صحيح أن جرثومة المرض تنشر العدوى بسرعة غير أن هناك جرثومة الصحة، وهي ذات فعالية كبيرة في الانتشار أيضاً. وما حدث في المجتمع الأميركي يمكن اعتباره من هذا النوع من الجراثيم الصحية الصديقة المؤهلة للانتشار إلى بقية المجتمعات القريبة والبعيدة.في هذا المكان، وفي زمان يرجع إلى أسابيع عدة ماضية، عندما نجح أوباما في نيل ترشيح الحزب الديمقراطي للرئاسة كتبت قائلاً: «إنني أرفع قبعتي وانحني إجلالاً واحتراماً لديمقراطية الشعب الأميركي لأنه استطاع أن يهضم فكرة ترشيح رجل ينتمي في الأصل الجيني إلى إفريقيا السوداء التي استعبدت أميركا الكثير من رجالها ونسائها وأطفالها ولم يتحرروا إلا بالأمس. وهذا الفعل لا يمكن أن يصدر إلا عن شعب طيّب الأعراق». واليوم وبعد الانتخابات أكرر هذا القول مثنى وثلاثاً ورباعاً، خصوصا أن الشعب الأميركي أثبت في هذه المرحلة نظرية كانت بحاجة إلى إثبات، وهي أن الشرود المؤقت، وليس الخروج النهائي، عن مبادئ الأباء المؤسسين خطأ ولن يتحول إلى خطيئة، وبالتالي فإن العودة عن الخطأ، وسلوك الطريق الصحيح، كان وسيبقى دائماً من شيم الأصالة الحقيقية.* كاتب لبناني
مقالات
أوباما والامتحان الصعب
12-11-2008