بلاغة شعبية

نشر في 27-06-2008
آخر تحديث 27-06-2008 | 00:00
 محمد سليمان البلاغة لا تخص الشعراء والكتاب وحدهم، فرجل الشارع السابح في الزحام والمتواري والباحث عن قوته وأمنه له بلاغته الخاصة أيضاً وقدرته على اللعب باللغة واستخدام المجاز في مواقف معينة لمنح عباراته قدراً أكبر من التأثير والفاعلية أحياناً، وللتحرر من عبء التصريح المخجل أو الفج والاحتماء برعاية الإيحاء والتلميح الجميل في أحيان أخرى.

فهو أحياناً يرسم ملامح أحدهم في سلوكه وقيمه الأخلاقية بالحديث عن يده قائلاً «يده طريّة»... ليجسد السخاء والكرم والمروءة، وقد يقول «يده قصيرة» ليشير إلى الضعف والعجز وقلة الحيلة، أو يحدثنا عن البخل والتقتير قائلاً: «يده ناشفة». وعن القسوة والتجبر وانعدام الرحمة قائلاً: «يده طرشاء أو عمياء»، وعن الإسراف والإتلاف والسفه قائلاً: «يده مخرومة»، أي لا تتشبث بشيء أو تبقي عليه. وقد يتحدث عن ثراء أحدهم وسطوته قائلاً: يده طائلة «طايلة».

ويعتمد فهم المجاز عادة على السياق الذي أنتجه وعلى مستقبلي العبارة... فرجل الشارع قد يشكو ويتحدث عن جفاف الحلق والفم «نشفان الريق» ليعبر مجازاً عن الإلحاح وكثرة المطالبة وتكرارها وانعدام جدواها، لكن هذه الشكوى نفسها قد تخرج من دائرة المجاز وتتحول إلى شكوى مرضية إذا كان المستقبل طبيباً.

وبسبب تعاملي الدائم مع رجل الشارع في صيدليات المدن والقرى اكتشفت مبكراً ميله الفطري إلى اللعب باللغة واستخدام المجاز لتشكيل عبارات عجيبة ومدهشة يوجز بها شكواه ويجسدها في الوقت نفسه، فعندما يتحدث عن «جريان» المعدة والإمعاء، فهو يشير إلى مرض الإسهال واضطراب الجهاز الهضمي، وعندما يقول «جسمي محلول» فهو يشير إلى الضعف العام والقصور الجنسي، وعندما يقول «ابني مَيّته بتسبقه»، فهو يتحدث عن طفله المصاب بمرض سلس البول والذي لا يصحو من نومه في الوقت المناسب للذهاب إلى بيت الراحة.

وأحياناً يُحلّق رجل الشارع بمجازاته ويقترب من الألغاز، خصوصاً حينما تتعلق الشكوى بحالات القصور الجنسي... فيقول أريد دواءً يساعدني على دخول البستان ورعايته، أو يربط ضاحكاً الاتصال الجنسي بالاتصال التليفوني قائلاً: «مش قادر أقول ألو». وكنت أعاني في البداية لفك طلاسم بعض هذه المجازات وتحليلها واقتناص مغزاها، لكن بعد اعتيادي عليها صرت أُقدرها وأستمتع بها وأعتبرها دليلاً على حيوية رجل الشارع وطاقاته الخلاقة.

في صباي كانوا يتحدثون في القرى عن أحدهم قائلين بازدراء «يده طويلة» أو «مقطوع اليد» أي لص أو مرتشٍ، يده تستحق القطع لأنها دائماً ممدودة إلى ما يخص الآخرين، ولأنني كنت في ذلك الوقت عاجزاً عن فهم المجاز واستيعاب البلاغة الشعبية كنت أسعى خلف صاحب اليد الطويلة لأعاين وأقارن، وأُدهش عندما أجد اليد عادية وسليمة، وأحياناً كنت أُورّط الجميع عندما أقول للرجل يدك ليست طويلة أو مقطوعة كما يقولون.

اليد الطويلة كانت في الماضي تعزل صاحبها وتلحق بأهله الهوان والعار، لكنها الآن صارت دليلاً على الاقتدار والمهارة وعلامة على فهم واستيعاب الواقع الجديد والانخراط فيه بعد هبوب عواصف الخصخصة واستشراء حُمى البيع والبحث عن الرشاوى والعمولات والغنائم تحت راية المثل الشعبي «اللي تكسب به إلعب به» الذي يكرس الميكيافيلية ويبيح المحظور، وبعد انحسار ظل الدولة وتخليها عن دور الأم الحاضنة والحامية والمسؤولة، وهيمنة رجال المال والأعمال على كل أمور رجل الشارع الذي وجد نفسه فجأة في العراء؛ مُحاصراً بالقلق والكذب والخوف من المستقبل، ومجبراً على الاحتجاج والتمرد أو الرضوخ للفساد الذي بدّل وغيّر الكثير من القناعات والأفكار والقيم. هذا كله أسهم في أن يتخذ المجتمع ذلك الوجه الجديد والغريب الذي يُجاور فيه الانفلات بأشكاله كلها، لنرى مظاهر التدين وهجاءُ الآخر وسَبّه، تجتمع مع الحلم بالهجرة إليه والذوبان فيه، ومدائح الشرف والصبر والأمانة تترافق مع تلك الرغبة المحمومة في التملك والاحتكار والنهب والإثراء أياً كانت الوسائل.

وبسبب هذا التحول لم يعد الاهتمام الآن منصباً على طول اليد وامتدادها إلى أموال الآخرين، وإنما على حجم المسروق والمنهوب فصار الاحتقار والازدراء وقفاً على صغار المرتشين واللصوص، بينما فاز ناهبو البنوك وسارقو الملايين والمليارات بالإعجاب الذي يواريه بعضهم أحياناً بالحديث عن مهارة وجرأة هؤلاء الكبار الذين خدعوا الجميع وأخلصوا للمأثور الشعبي الشائع «إن سرقت... اسرق جمل»، أي شيء كبير وعظيم لكيلا تصبح لصاً بائساً ومثيراً للسخرية... ويبدو أن اليد البالغة الطول قد أصبحت رمزاً لواقعنا وراية له.

*كاتب وشاعر مصري

back to top