بعد أيام قليلة من إعلان صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» العريقة قرارها الاستراتيجي بالتوقف عن الصدور اليومي في نسختها الورقية، والاكتفاء بنسختها الإلكترونية إلى جانب إصدار أسبوعي ورقي، أطلقت هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» جميع قنواتها التليفزيونية على الإنترنت يوم الخميس الماضي، وهما حدثان محوريان سيترتب عليهما الكثير من التطورات في الصناعة الإعلامية على مستوى العالم أجمع.

Ad

تحدثت في مقال الأسبوع الماضي في تلك الزاوية نفسها عن أن الكثير من التطورات تحصل في الغرب مشيرة إلى تراجع كبير في الإعلام التقليدي لمصلحة الإعلام الجديد، وأن خبراء عديدين في العالم العربي يعتبرون أن ما يحصل هناك يجب أن يحدث عندنا وفي الوقت ذاته.

ولعل في الخطوة التي اتخذتها «المونيتور»، وهو الاسم المختصر للصحيفة الأميركية التي تحظى بالاحترام والتقدير طيلة مائة عام من صدورها، والتي أنهت وجودها الورقي اليومي عند معدل توزيع يقارب 200 ألف نسخة يومياً، لعل في هذه الخطوة ما يعزز هذا التوجه.

كما أن إقدام هيئة الإذاعة البريطانية على بث جميع قنواتها عبر الإنترنت يمثل تطورا مفصلياً بحد ذاته في خدمات الصناعة الإعلامية؛ إذ اعتادت «بي بي سي» على مدى تاريخها الذي يزيد عن سبعة عقود على إلهام الصناعة والسوق وقيادتهما إلى آفاق جديدة عبر العالم سواء على صعد الخدمات أو التقنية أو المعايير المهنية والقيم.

كانت الفكرة الرئيسة التي خلص إليها المقال المشار إليه تتلخص في أن وسائل الإعلام التقليدية في عالمنا العربي مازالت تنشأ وتتطور وتكسب أرباحاً وتزدهر، ووسائل الإعلام الجديد تنمو باطراد، لكنها لا تحظى بالرشد ذاته ولا الفاعلية نفسها التي تتمتع بهما في الغرب. وأن ذلك يجعلنا نؤمن بأن اعتمادنا على الإعلام التقليدي لن يتراجع لمصلحة الإعلام الجديد بالدرجة نفسها التي تحدث في الغرب ولا في الوقت نفسه.

والواقع أن هذه النقطة تحتاج المزيد من التفصيل خصوصا بعد توالي الإشارات إلى تراجع الإعلام التقليدي في منافسته الشرسة مع الإعلام الجديد في أهم مواطن الصناعة الإعلامية العالمية؛ أي في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.

لا شك أن قراري «المونيتور» والـ«بي بي سي» جديران بالاحترام وربما الإعجاب؛ إذ صادفا الواقع، وبادرا إلى الجديد قبل أن يتحول عبئاً ضاغطاً على موازنتيهما أو قدراتهما التنافسية. لكن ذلك حظي بما يبرره ويجعله لازماً ومحبذاً، وهو الأمر الذي لم يتحقق بعد في حالتنا العربية.

ففيما يتعلق بـ«المونيتور»، لا يبدو أن تلك الصحيفة العريقة كان أمامها الكثير من الخيارات للاستمرار في نسختها الورقية، خصوصاً بعدما بلغ عدد زوار موقعها الإلكتروني مليون شخص شهرياً في مقابل عدد نسخ ورقية مباعة يناهز 20 في المئة من هذا الحجم. لقد كان ذلك مستساغاً جداً بالنظر إلى الحقائق والمعطيات التي تشكل السوق الأميركي؛ إذ يستخدم 75 في المئة من الأميركيين البالغين الإنترنت، وتزيد هذه النسبة إذا أضفنا إليها المستخدمين من المراهقين، والذين باتوا يشكلون كتلة جديرة بالاعتبار في الوقت ذاته.

إضافة إلى ذلك فإن 93 في المئة من الأسر الأميركية يمتلكون أجهزة كمبيوتر خاصة، وهو الأمر الذي يعزز إلى حد كبير درجة النفاذية Accessibility إلى الإنترنت، ويربط معظم الجمهور بهذه الشبكة، في بلد مترامي الأطراف ومتعدد الخلفيات الثقافية والعرقية. 221 مليون مستخدم للإنترنت في الولايات المتحدة، يمثلون أكبر مجتمع لمستخدمي الشبكة ضمن وحدة سياسية واحدة، هو عدد يجعل من قرار «المونيتور» صحيحاً إلى حد ما.

الأمر ذاته يتكرر في المملكة المتحدة؛ إذ ساعد المستوى الاقتصادي والاجتماعي المرتفع نسبياً، والتنافس بين مزودي خدمات الإنترنت على زيادة معدل النفاذية إلى الشبكة العنكبوتية، ليزيد عن 65 في المئة بين السكان، وفق أحدث الإحصائيات. لم يكن أمام «بي بي سي» خيارات كثيرة في هذا الصدد، خصوصاً وأن مكتب الاتصالات Office for Communications، وهو إحدى الجهات المرجعية الإعلامية، أفاد أن عدد من يشاهدون التليفزيون عبر الإنترنت في المملكة المتحدة تضاعف في سنة واحدة، ليبلغ نحو 16 في المئة من إجمالي مستخدمي الشبكة في عام 2007.

تشير جميع المؤشرات الخاصة بامتلاك أجهزة الكمبيوتر، وإجادة استخدامه، والنفاذية إلى الإنترنت، وعادات القراءة والمشاهدة، ونسبة الشباب بين المستخدمين إلى أن القرارات الأوروبية والأميركية في اتجاه تطوير استراتيجيات لزيادة الاعتماد على وسائل الإعلام الجديد New Media وتقنياته هي استراتيجيات تتسم بالجدوى والرشد.

الوضع يختلف حين نتحدث عن مجتمعاتنا العربية؛ ففي اليمن على سبيل المثال لا تتعدى نسبة مستخدمي الإنترنت 1 في المئة من إجمالي السكان، وفي مصر، وهي أكبر الدول العربية سكاناً، يبلغ عدد مستخدمي الإنترنت 8 ملايين مستخدم، بنسبة في حدود 8 في المئة من إجمالي عدد السكان، أما في تونس فالنسبة في حدود 9.2 في المئة، تقل إلى 5.7 في المئة في الجزائر، وتزيد إلى 25.6 في المئة في الكويت، و26.6 في المئة في قطر، وتسجل أعلى مستوى لها عند 33.2 في المئة في الإمارات.

وليت الأمر يقف عند حد درجة النفاذ إلى الإنترنت من عدمه، أو امتلاك الكمبيوتر، أو القدرة على استخدامه بمهارة، لكن الأمر يتعلق بما هو أكثر حيوية من ذلك؛ فمعدلات الأمية في العالم العربي مازالت تراوح عند حد الـ 40 في المئة في معظم الدول، تزيد أحياناً إلى 60 في المئة بين النساء، وهو عدد كبير إن خرج من أميته، فسيخرج إلى وسائل الإعلام التقليدية أولاً، التي ستعيش وتزدهر في هذا الجزء من العالم لسنوات أخرى مقبلة.

* كاتب مصري