Ad

رغم كل تلك التراجعات الموجعة والتوقعات الصعبة، يمكن القول إن اقتصادات الدول الخليجية لم تصب بضربات حادة كتلك التي تعرضت لها أسواق الدول المتقدمة في أميركا الشمالية وأوروبا والناشئة في آسيا وأميركا اللاتينية، وأنها مازالت قادرة على التعاطي بمرونة مع الأزمة الراهنة

من حسن الحظ أن خسائر دول الخليج العربية جراء الأزمة المالية العالمية المحتدمة لم تنفذ بعد لتضرب في «اللحم الحي»؛ إذ مازالت تتغذى على الفوائض والنجاحات التي تحققت بفضل الطفرة الاقتصادية العالمية خلال السنتين الفائتتين وخصوصاً أسعار النفط المرتفعة. لكن التقارير والتحليلات كلها تفيد أن المقبل أصعب وأكثر إيلاماً، وأن التحدي الرئيس يكمن في قدرة تلك الدول على اجتراح حلول مبدعة للحفاظ على أنساقها الاقتصادية والمالية دون مستوى «التراجع التلقائي المتوالي»، الذي يزعزع اليقين ويهز الثقة في متانتها وكفاءتها وقدرتها على تجاوز التعثر الراهن.

سيكون من الصعب على أي تحليل دقيق إحصاء حجم الخسائر التي لحقت بالاقتصادات الخليجية حتى الآن إحصاء دقيقاً، لكن ثمة ما يمكن الاستناد إليه لتقويم التراجعات التي منيت بها تلك الاقتصادات تقديراً قريباً من الواقع.

تُصدّر دول الخليج العربية نحو 18 مليون برميل من النفط يومياً، تشكل عوائدها منها عصب اقتصاداتها وموردها المالي الأول لمواجهة النفقات والاستحقاقات المتصاعدة، ولنا أن نتصور أن تلك الصادرات تراجعت فجأة إلى ما يناهز السبعة ملايين برميل؛ إذ انخفضت أسعار النفط العالمية بنحو 60 في المئة، في نهاية تعاملات الأسبوع الماضي، مقارنة بأعلى مستوى سجلته في تاريخها في يونيو المنصرم عند 147 دولاراً للبرميل، ومسجلة أدنى مستوياتها على الإطلاق منذ ثلاث سنوات مضت.

لا يمكن وصف التأثير الذي قد تحدثه خسارة بهذا الحجم، لكن العزاء يكمن في أن دول الخليج اعتادت على أسعار النفط المنخفضة لنحو سبع سنوات متصلة، ولنحو نصف العقد كانت تضع موازاناتها التقديرية على أساس سعر برميل لا يتجاوز العشرين دولاراً، ولذلك فقد انتعشت محافظها الاستثمارية، وزادت موجوداتها في صناديقها السيادية، لتبلغ مستويات قياسية حينما حقق البترول صعوده القياسي في الشهور السابقة.

لكن الصناديق السيادية أيضاً منيت بخسائر موجعة؛ فتلك المحفظة الضخمة، التي تقدرها بيوت المال الكبرى بما يزيد عن تريليون ونصف التريليون دولار، فقدت بدورها نحو ربع قيمتها، بخسائر قدرتها مجلة «الإيكونومست» بما يزيد عن 400 مليار دولار، جراء تراجع أسواق المال العالمية تراجعات قياسية منذ منتصف شهر سبتمبر الماضي، ومعها خسائر البنوك والمؤسسات المالية العالمية، التي كانت تشكل وجهة أساسية من وجهات استثمار الأموال السيادية الخليجية.

ولا يقف الأمر عند ذلك الحد بالطبع، فقد ضربت الأزمة الاقتصادية العالمية قدرة النمو في البلدان الصناعية المتقدمة أيضاً لسنوات مقبلة، وكذلك الاقتصادات الناشئة، التي عزز طلبها المتزايد الاقتصاد العالمي وأوصله إلى ذرى في النمو والفعالية غير مسبوقة.

فقد أفادت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (أويسيد) في أحدث تقاريرها أن اقتصادات الدول الصناعية الرئيسة في العالم ربما تكون دخلت مرحلة «ركود» طويل الأمد، مع احتمالات مرجحة لانكماش اقتصاد الولايات المتحدة ودول منطقة اليورو في العام المقبل، معتبرة أنه يمكن توقع نمو طفيف لا يجاوز الـ 1.5 في المئة في تلك الدول في العام 2010.

الأمر ذاته ينطبق على اقتصادات الدول الناشئة، التي ستدخل مرحلة ركود بدورها، حيث تتراجع صادراتها ووارداتها من المواد الخام والسلع والخدمات، بسبب تراجع الطلب في الاقتصادات الغنية المثقلة بالديون، وانحسار تدفقات رؤوس الأموال لمحاولة تخفيض الديون.

ويأتي الإشكال الأكبر والأكثر إيلاماً للمواطن الخليجي خصوصاً متجسداً في التراجع الحاد المطرد في أسعار الأسهم؛ إذ خسرت البورصات الخليجية خسائر قياسية، سجلت في أقصى حالاتها نحو 45 في المئة من قيمتها في السوق السعودية، وهي تراجعات مرشحة للاستمرار في ظل عدم تحسن الأداء في الأسواق العالمية.

وما يزيد الأمر صعوبة أن الفرص الواعدة التي بدأت تظهر لرأس المال الخليجي من خلال شراء أصول في مؤسسات مرموقة عالمية عبر ضخ الفوائض المتراكمة في الصناديق السيادية وغيرها، استفادة من أزمة تلك المؤسسات، باتت محل شك كبير. فلم تكد الأنباء تذاع عن أولى تلك الصفقات المميزة والمتعلقة بشراء مستثمرين قطريين وإماراتيين حصة تزيد عن 30 في المئة من بنك باركليز (ثاني أكبر بنك في المملكة المتحدة)، حتى سرّب ملاك حصص نافذون في البنك معلومات عن معارضتهم للصفقة «بشروطها الراهنة»، وهو الأمر الذي يلقي بظلال من الشك على قدرة المحافظ المالية الخليجية على تحقيق اختراقات استراتيجية، عبر شراء حصص مرموقة في مؤسسات كبيرة، بما يعوض بعضاً من الخسائر الاقتصادية الضخمة.

وإضافة إلى تراجع أسعار النفط، وخسائر الصناديق السيادية، ونزيف أسعار الأسهم، والانكماش الاقتصادي القسري المرتبط بمثيله العالمي، وتوفير الوظائف وتسريح أعداد كبيرة من العمالة خصوصاً في قطاعات التطوير العقاري والخدمات، ستكون الدول الخليجية عرضة لضغوط سياسية تستهدف حضها على دفع عشرات المليارات في صورة مساعدات وقروض لدول واقتصادات متعثرة.

ومحلياً ستجد دول الخليج نفسها مجبرة على دفع رواتب مرتفعة للعاملين بها في ظل معدلات تضخم منخفضة وركود اقتصادي وتراجع في إيجارات السكن، لأنها سبق أن رفعت هذه الأجور ارتفاعات بعضها قياسي، لمواجهة موجة تحسن اقتصادية لم تلبث طويلاً.

ورغم كل تلك التراجعات الموجعة والتوقعات الصعبة، يمكن القول إن اقتصادات الدول الخليجية لم تصب بضربات حادة كتلك التي تعرضت لها أسواق الدول المتقدمة في أميركا الشمالية وأوروبا والناشئة في آسيا وأميركا اللاتينية، وأنها مازالت قادرة على التعاطي بمرونة مع الأزمة الراهنة لو امتلكت القدرة على إيجاد عدد من الحلول المبدعة.

* كاتب مصري