إنها تحيا في صفحاتنا
تناولت ندوة معرض الكتاب في هذا العام موضوع «الرواية النسوية الخليجية»، وهو في رأيي أمر مهم ومختلف عما هو موجود في الساحة من الروايات العربية، فالرواية الخليجية وخصوصا الرواية النسوية نجد لها نكهة وطابعاً يميزاها عن غيرها، وذلك يعود لأسباب عديدة أهمها المكان، واللغة، ومستوى المعيشة، واختلاف الاهتمامات وطبيعة الحياة، وأشياء أخرى لا مجال لحصرها في ندوة محدودة بزمن قصير.
وبما اني كنت من ضمن المشاركات في هذه الندوة، أحببت أن أتناول المكان وتأثيره على لغة السرد ومساراتها في الرواية النسوية الخليجية، وذلك راجع لإيماني الكامل بتأثير المكان على أسلوب لغة السرد، وهو الأمر الذي يبدو واضحا أكثر ما يكون في بنية لغة سرد الرواية الخليجية النسوية... والسبب يعود إلى التغير الهائل الذي تعرضت له الأمكنة الخليجية، هناك اقتلاع كامل لهوية المكان وتأريخه، وهوية اللغة التي تأثرت بالتغيرات التي انتابت المكان وأخلت به وبذاكرته وهويته وبتركيبته الاجتماعية. فسنوات الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي لم يعد لأمكنتها أي وجود إلا من خلال الرواية، سنوات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي زالت من الذاكرة، تجدها فقط في الكتب، لأن المكان اتسع بشكل ملحوظ، واختلف اختلافا هائلاً عما كان عليه في ماضيه، ومازال هذا الاقتلاع لذاكرة المكان مستمرا بلا توقف، لذا نجد أن الدول الخليجية هي أكثر الدول العربية تعرضاً للانسلاخ عن هوية وذاكرة أمكنتها القديمة، لم يعد لها شيء من ماضيها إلا ما هو مذكور ومدون في سرد رواياتها، هذه الروايات حفظت ذاكرة وهوية أمكنة اندثرت واندثر واقع وحياة من عاش فيها. وكما نقلت الرواية واقع هذه الأمكنة، فإن هذه الأمكنة قد أثرت بدورها على مسارات أسلوب لغة السرد الروائي، فمن جيل الرواد إلى جيل الوسط، ومن ثم إلى الجيل الحالي، نجد أن تأثير المكان على أسلوب كل منهم يختلف من جيل إلى جيل، ولا يظهر هذا الاختلاف بمثل هذا التفاوت في الرواية العربية والسبب يعود إلى أن المدن العربية لم تتعرض أمكنتها للاقتلاع والطمس لهويتها القديمة، فمازالت تتمتع باستقرارها وثبات هويتها منذ مئات السنين مما أثر على أسلوب السرد الروائي فيها ومنحه الثبات في هويته، فمن الجد إلى الأب، وإلى الحفيد... المكان هو ذاته واضح وثابت في مقره وهويته، لذا نجد أن هذا الانتماء الى هذا المكان وتأثيره وسطوته وتسلط حضوره قد تواصل من الأجداد إلى الأحفاد، فمثلا نجد أن هيمنة المكان في مصر فرض وجوده على السرد الروائي المصري من قبل نجيب محفوظ إلى زمن جمال الغيطاني ويوسف القعيد وإبراهيم اصلان، ومن بعدهم إلى زمن الكتاب الجدد، نجد أن تأثير المكان هو ذاته، فالنيل، والأهرامات، والأزهر والحسين، والكنائس القبطية، وسقارة والمقطم وغيرها، كلها تفرض ذات التأثير والحضور والهيمنة على نصوصهم. أما في الخليج فنجد أن أسلوب السرد الاجتماعي والواقعي هو الذي كان مسيطرا على الرواية، حينما كانت المدينة تعيش داخل الأسوار والبوابات المقفلة على حميمتها، وانفتاحها، وتلاحمها، والتصاقها بعضها مع بعض... وعندما امتدت المدن واتسعت بعد ظهور البترول فيها، خرجت البيوت خارج أسوار المدينة، تبعثرت حميمتها وتغربت المشاعر فيها، فعكست هذه الأمكنة المتباعدة والمتوحدة في غربتها أثرها على لغة السرد فولدت الرواية الخليجية الصامتة، المناجية للماضي، ولدواخلها المتوحشة بالفقدان والفصم والوحدة. ومع ازدياد التوسع والامتداد الرأسي في المباني، وازدياد العزلة ما بين الناس، وانقطاع التواصل الحميمي بينهم، وانغلاقهم على ذواتهم في حجر مغلقة عن الخارج القريب ومنفتحة على العالم البعيد كله عن طريق شاشة الانترنت. هذا المكان المغلق مع هذه الشاشة المفتوحة على التواصل مع العالم كله، أثرا بدورهما على أسلوب الرواية النسوية فبدأت تعود إلى الضوضاء وانفتاحها على العالم الاجتماعي الجديد، الذي فيه تواصل وتعامل ومعرفة هائلة وان كانت لا تمت بصلة إلى شكل التواصل القديم. لكن هذا الانفتاح على هذه الأمكنة انعكس أثره على أسلوب الرواية وأعادها إلى أسلوب الرواية الواقعية الاجتماعية من جديد. ولا ندري كيف سيكون أسلوب السرد في الرواية المستقبلية حين ينضب البترول وتتغير الأمكنة تبعا لتغير أسلوب المعيشة فيها، كيف سينعكس تأثير الأمكنة القادمة على أسلوب لغة الرواية السردي في المجتمعات الخليجية؟