انتخب الكويت
كثيراً ما استُهلكت عبارات من نوع «تطور نوعي» و«تغير فارق» و«خيار مصيري» و«حدث له ما بعده» و«منعطف خطير» عند الحديث عن الكثير من الاستحقاقات السياسية في بلداننا العربية، حتى كادت مثل تلك العبارات تفقد معناها، وفي أحيان أخرى بات مجرد استخدامها دليلاً على ضآلة تأثير الحدث وعاديته، على العكس من الرغبة في تضخيم أثره وتداعياته.ولذلك أصبح الكثيرون يتفادون استخدام مثل هذه العبارات، حتى لا يُفهم استخدامهم لها على أنه تنطع أو مزايدة أو تهويل ومغالاة في أمور لا تستحق. والواقع أن أي مراقب مهتم بطبيعة الحياة السياسية الكويتية والمسار الديمقراطي في هذه البلاد، يعرف أن انتخابات اليوم تختلف عن انتخابات أخرى عديدة، وهذا أمر لن يعوق ذكره التحسب الذي سبقت الإشارة إليه ومحاولة التوازن حيال الحدث الانتخابي ووضعه في حجمه الطبيعي من دون تضخيم.
فتلك الانتخابات، بأي مقياس منصف، ليست أهم حدث انتخابي تشهده الكويت، لكنها بين أهم تلك الأحداث، وليست خياراً مصيرياً أو تغيراً استراتيجياًً في الحياة السياسية والنيابية في البلاد، لكنها، بكل جدارة، ستكون بداية مرحلة، وحدثاً له ما بعده عندما يُؤرخ للممارسة الديمقراطية الكويتية.فالانتخابات الراهنة قد تسفر عن تكريس وتعزيز لدور القبيلة في الحياة السياسية والممارسة الانتخابية الكويتية، بشكل لن يستقيم معه الوضع في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة من دون اجتراح حلول فعالة لاحتواء هيمنة القبلي على السياسي، بما يقوده هذا إلى سحب الممارسة الانتخابية من إطارها التنافسي الحداثي البناء إلى سياق ماضوي ارتدادي تقليدي يعتمد النزعة والعرق والعصبية البدائية معياراً ووسيلة للنفاذ والنفوذ وممارسة العمل العام.انتخابات 2008 أيضاً منوطة بالإعلان عن تصاعد الوعي الشعبي حيال استخدام المال السياسي والرشوة الانتخابية بأنواعها، ومن ثم رفض هذا الاستخدام المشين في الحياة السياسية في بلد يعرف الرفاه الاقتصادي النسبي ويمارس الديمقراطية منذ أكثر من أربعة عقود، أو هي ستشهد الإقرار بصعوبة التخلص من تلك الآلية والخضوع لتأثيرها المقيت في المسار الديمقراطي بالمجتمع.وانتخابات اليوم أيضاً ستحسم مسألة مشاركة المرأة في الحياة البرلمانية؛ فإما أن تظل المرأة في طريق طويل وعر على هامش تلك الحياة، تُنفق السنين وربما العقود الطويلة قبل أن تحظى بشرف تمثيل الناخبين في البرلمان، وإما أن يستجيب الناخبون لاعتبارات الحداثة، ويميزون بين المرشحين على أسس الكفاءة والاستعداد للخدمة العامة وممارسة الأدوار النيابية، وهنا قد تُنتخب امرأة أو أكثر، على اعتبار أن كثيراً من المرشحات يمتلكن القدرة على التمثيل المشرف والأداء البناء في البرلمان. سيحسم الاقتراع اليوم الكثير من التساؤلات عن أنماط التصويت بين الناخبين الكويتيين؛ فهل سيصوت الناخبون لأصحاب السجلات النظيفة البيضاء، والقادرين على استخدام الآليات والأدوات البرلمانية المتاحة لتحسين الأوضاع وممارسة الاستحقاقات البرلمانية بالقدر الواجب من المسؤولية والإحساس السياسي الرفيع والنظرة البناءة، أم سيتم التصويت لمصلحة هؤلاء من محترفي التأزيم، والبلاغة والرطانة، وخلط المطلق بالنسبي، والديني بالمدني؟حدثان فارقان استبقا الانتخابات، ليرسلا رسالتين مهمتين لأصحاب الشأن، ورغم أن كثيرين يعتبرون ألّا صلة للانتخابات بهذين الحدثين، فإن ثمة صلة غير مباشرة تربط كليهما بتلك الانتخابات، ويجدر أيضاً أن يؤثرا فيها، فقد غيب الموت الأمير سعد العبد الله السالم الصباح؛ فخرجت الكويت كلها في وداعه، متذكرة مناقبه ومآثره، كما تأثرت الأمة العربية تأثراً واضحاً بالحدث؛ إذ نُظر إلى الأمير الراحل دوما على أنه واحد من أبنائها النجباء.رحل سعد العبد الله فلم يبق له أو منه سوى تلك المناقب التي أجمع الجميع عليها: «إخلاصه للوطن، وعمله الدؤوب، وإيمانه بالبلد وقضايا الأمة، وعقله السياسي وإدارته المتوازنة البناءة». وبذلك الغياب، وبتلك المناقب، وبهذه الأعمال، يبعث الأمير الراحل، عشية الانتخابات، رسالته الأخيرة للمجتمع الكويتي المتوجه إلى الاستحقاق الانتخابي مرشحاً أو ناخباً.الحدث الثاني تمثل في انفجار الأوضاع في لبنان، قبل أن تعود نذر الأمل بتهدئة يُرجى لها الدوام؛ إذ لم يكن ذلك الانفجار سوى رسالة واضحة عن أثر هيمنة الطائفي على السياسي، وتنازع العصبيات على الأسس المذهبية، وارتدادنا إلى عصور مضت، وأنماط تحزب وافتراق تجاوزها العالم المتمدن منذ عقود طويلة، فيما نحن مغرقون فيها نعض عليها بالنواجذ، ونتحايل على القانون والسلطات لتفعيلها وإبقائها جاثمة على صدر الحياة.الرسالتان واضحتان لكل ناخب ومرشح في استحقاق اليوم الانتخابي: انتخب الكويت اليوم حين تتوجه إلى صناديق الاقتراع؛ فهي أولى وأجدر بصوتك مما سواها. انتخب الكويت، لا الطائفة، ولا القبيلة، ولا المنفعة الصغيرة معدومة الأثر، ولا الإنشاء السياسي واللعب بالعواطف وفرقعات الكلام.* كاتب مصري