أصدر مجموعة من الشيعة المتنورين بيانا «تصحيح مسار الطائفة الشيعية في الوطن العربي» و«تحرير الإسلام الشيعي من الهيمنة والاستبداد والقضاء على كافة معوقات انسجام الشيعة مع أوطانهم وإخوتهم في الدين والوطن والأمة والإنسانية». وقد جاءت مقترحات «التصحيح» في حوالي 18 بندا في صلب العقيدة والممارسة الشيعية مثل قضايا؛ «التقليد»، و«إعطاء الخمس لرجال الدين»، و«ممارسات التطبير والدق على الصدور في طقوس عاشوراء»، و«ولاية الفقيه».
الجميل أن أحدا لم «يزرق» أو «يحمر» من أئمة الشيعة، ولم تظهر فتاوى بتحليل سفك دماء الموقعين على البيان، ولم يخرجهم أحد من الملة أو الإسلام، وظلت ردود الأفعال والحوارات حضارية نسبيا. بل إن أحد الموقعين، أحمد الكاتب، وهو رجل دين درس على أيدي أئمة ومراجع الشيعة ومدرس سابق بالحوزة الدينية في العراق وإيران ورئيس جمعية الحوار الحضاري في لندن، وله آراؤه الراديكالية في التاريخ السياسي/الديني وتجديد الخطاب الشيعي. وله الكثير من الأبحاث والتصريحات التي تشكك فيما يشكل عصب الخلاف السني/الشيعي. للمزيد عن أفكاره: www.alkatib.co.ukأقارن رد الفعل الشيعي على هذا البيان بمواقف الأزهر والجماعات الإسلامية الأصولية من تعليقات ومقالات وأسئلة أقل جدية وأكثر سطحية، والتي تمثلت بتهم الردة وفصل الزوج عن زوجته والمحاكمات بتهم الإساءة للذات الإلهية وحتى الاغتيال. وأقارن منطق موقعي البيان بعقلية السلف وثوابت الأمة ومَن يدور في فلكهم في الكويت وبقية الخليج. وأجد الفارق في الحالتين شاسعا جدا. والسؤال هنا لماذا؟ لماذا نجد التيار الشيعي، رغم ثوريته وميله إلى الحدة في التعبير عن العقيدة، أكثر تسامحا وانفتاحا نسبيا على الرأي الآخر؟ والكلمة المحورية هنا «نسبيا» لأن التاريخ الشيعي لا يخلو من التطرف والعنف تجاه الرأي الآخر ولعل قضية سلمان رشدي مازالت في الأذهان كمثال حي.التسامح النسبي متعدد الروافد منها- وهو الأهم في رأيي- المسار والأسلوب التعليميان اللذان يتبعهما رجال الدين في الطائفتين. فطلبة «الشريعة» في جامعة الكويت مثلا يتخصصون فور التحاقهم بالجامعة في الفقة والتشريع والتفسير والتلاوة وغيرها من التخصصات الدينية الدقيقة دون اطلاع واف على العلوم الأخرى، وبالأخص العلمية والفلسفية. هذا مضاعف بقفل باب الاجتهاد ما جعل كل هم الطالب هو حفظ وتكرار ما في الكتب الصفراء دون بناء أي مهارات في البحث العلمي أو التفكير النقدي أو حتى التفكير المستقل- «لا سمح الله». ومناهج الأزهر وغيره من الجامعات الإسلامية «السُنيّة» لا تختلف كثيرا عن ذلك الخليط القاتل لأي مجال للانفتاح أو التسامح. في حين أنه من المميز في طلاب الحوزات الشيعية دراسة العلوم الطبيعية والفلسفية والتنافس في التحليل والبحث العلمي والانفتاح على الجامعات الأوروبية وتبادل الخبرات والتناظر في الآراء. وهذا الاهتمام بالعلم والبحث والتقصي هو خير طريق للتواضع الذي هو أساس التسامح. فلا يتواضع إلا العلماء الذين يعون ما لا يعرفون. ولا يُقدِّر الآخر إلا مَن يفهم حجم المجهول وتعقيدات ونسبية «الحقيقة».إن التطرف والانغلاق في أي فكر أو مذهب هو نتاج ضعف الفكر والحجة. إذ قيل إنه «كلما ضعفت الفكرة زاد إرهاب أصحابها»، والعكس صحيح تماما... فلكما كانت الأفكار مبنية على أسس علمية ومنطقية، قلّت الحاجة إلى العنف للدفاع عنها، وكلما تعلم الإنسان وقرأ، اتضح له أنه لا حقيقة مطلقة وأن لدى كل إنسان جزءاً أو زاويةً منها. إن العلم والاطلاع والبحث والتفكير المنطقي والنقدي هي مداخل السلام الداخلي والتسامح مع النفس والآخر... فهل يأتي اليوم الذي يعي فيه «علماؤنا» ذلك؟
مقالات
عقبالنا ... يارب
11-12-2008