في المقال السابق تم التأكيد على أننا في حاجة ماسة إلى نظام تعليمي يلائم واقعنا، الروحي والمادي، ويوافق ظروفنا الاقتصادية والاجتماعية، حتى تتوقف مدارسنا وجامعاتنا عن قذف الملايين من الناس كل سنة إلى مختلف دروب الحياة من بين غير قادرين إلى إدارة حياتهم بصيغة سليمة، ترتقي بها، وتوفر على الإنسان الوقت والجهد والمال، ثم انتهينا إلى أن التعليم حين يحقق مثل هذه الغاية وهذا الهدف فإنه يعزز «القدرة الناعمة» للدولة، بعد أن يدفع إلى شرايينها قوة بشرية جاهزة لكل الاحتمالات، في السراء والضراء، في السلم والحرب.

Ad

وهذه العملية ليست محض افتراض ينبع من الخيال الجامح، وليست مجرد رجاء ينبت من الأماني المقنعة، بل هي معطيات وحقائق جلية، تراكمت على مدار السنين من تجارب أمم أخرى، أخرجها نظامها التعليمي الناجع من الظلمات إلى النور، ومن التخلف إلى التقدم، والأمثلة في هذا المقام عديدة، لا يمكن نكرانها، وهي ليست مقصورة على الغرب فقط، بل موجودة في أماكن أخرى على سطح الأرض، ولعل التجربة الماليزية خير برهان، وأنصع مثال، على استخدام التعليم كأداة أساسية في عملية التنمية. وكي نرتقي هذه الدرجة فنحن نحتاج إلى ثورة هائلة في مناهجنا التعليمية، فنسند تأليفها إلى من يجدر بهم أن يؤتمنوا على صناعة عقل أمة، وليس إلى شلة من المنتفعين والمرتزقة التي تتعامل مع الأمر بأنانية شديدة، لا يهمها سوى الحصول على بضعة أموال من الخزينة العامة لقاء كتب دراسية هزيلة. ونحتاج أيضا إلى الاهتمام بالمعلم، ماديا ومعنويا، وتأهيله تربويا وعلميا للقيام بالخدمة الجليلة المنوط به، والاعتراف بمحورية دوره في العملية التعليمية برمتها، وإفساح المجال له، ليصول ويجول، على هامش المناهج المقررة، فيمنح تلاميذه بعض معرفته، ويحضهم على القراءة والمطالعة، بلا حدود وفي كل الاتجاهات. وهذه المسألة تفترض أن يتم تغيير طريقة اختيار المعلمين المتبعة حاليا، وإبداع طريقة جديدة، تعطي فرصة للنابهين والمجدين والمجيدين والمبدعين بأن يصلوا إلى المدارس والجامعات.

ونحتاج أيضا إلى اتباع طريقة من التعليم «التكاملي» و«المستمر» الذي لا يقتصر على المدرسة فقط، بل تشاركها المؤسسات الاجتماعية الأخرى، من أسر ودور عبادة ونوادٍ وجمعيات أهلية. ولا أعني هنا أن تقوم هذه المؤسسات بتكرار مناهج المدارس في صيغة دروس خصوصية كما هو متبع حاليا، بل يكون لها مناهجها الخاصة، المتفق عليها، والتي يضعها تربويون وعلماء ومفكرون ومختصون، مثل ما هي الحال بالنسبة للمدارس. كما لا يجب أن يختصر التعليم في مراحل العمر الأولى، فينتهي بمجرد تخرج الفرد من المدرسة الثانوية الفنية أو الجامعية، أو اكتفاء البعض بمرحلة التعليم الأساسي فقط، بل يجب أن يكون تعليما ممتدا في الزمان، يستمر من المهد إلى اللحد، فيظل الإنسان يتعلم من دون توقف، ليس من أجل الحصول على شهادة، بل للارتقاء بذهنه ومهنته وحرفته وإنسانيته. وفي كل هذه الأحوال والدرجات من الضروري أن تتسم العملية التعليمية بحيوية فائقة، وتحقق للمتعلمين والمتدربين مزيدا من المتعة والسعادة والرضاء عن النفس، وليس مزيدا من الشقاء والتعاسة والتوتر والخوف، مثل ما هي الحال لدينا الآن، حيث أورثت الامتحانات، خاصة الثانوية العامة، الأسر حالة من الرعب والضيق، الذي لا مبرر له، ويمكن تجنبه لو كان هناك تعليم مختلف، وتقويم مغاير لتحصيل الطالب وإلمامه.

ونحتاج أيضا إلى ربط التعليم بالبحث العلمي، وتعزيز صلة القربي الراسخة بينهما، فينفتح هذا على ذاك، في تفاعل خلاق، وتغذية مرتدة لا تتوقف أبداً، وأولى الخطوات في هذا الشأن هي إعلاء قيمة المؤسسية في البحث، وتعزيز روح الفريق بين العلماء والباحثين ومنتجي المعرفة بشتى ألوانها، فالبحث لا يتقدم في ظل هذه القطيعة الدائمة بين الباحث ومؤسسته، أو تهالك هذه المؤسسة وعدم قدرتها على توفير المناخ العلمي السليم، الذي هو شرط ضروري لأي نهضة تعليمية وعلمية.

* كاتب وباحث مصري