غالباً ما نردد عبارة «حكم القانون»، ولكننا نختلف كثيراً حول تحديد معناها ومبناها ومبتغاها، فالبعض يستخف بالقانون طالما يستخف به الحاكم، وبالمقابل فإن من هم في السلطة أو قريبون منها يقومون بتمجيده، وأحياناً بتجميده إذا كان يتعارض مع مصالحهم في اللحظة المعينة، الأمر الذي يثير اشتباكاً وتعارضاً ويضعف ثقة المواطن بالدولة.

Ad

ولعل موضوع الحديث هذا له علاقة مباشرة بندوة انعقدت في عمان تحت عنوان «... إرساء حكم القانون في المنطقة العربية» كان قد نظمها «المركز العربي لتطور حكم القانون والنزاهة»، وهو مركز إقليمي دولي متخصص، وله مساهمات متميزة في نشر الثقافة القانونية والوعي الحقوقي، لاسيما في إطار المجتمع المدني، فضلاً عن تدريب أعداد كبيرة من العاملين في المؤسسات الحكومية العربية وخارجها. وتميّزت ندوة عمان بالمشاركة الحكومية والرسمية إضافة إلى المشاركة الفاعلة لمؤسسات المجتمع المدني وهيئات نقابية وإعلامية وجمعيات حقوقية.

وإذا كان القانون هو مجموعة القواعد القانونية السلوكية التي تسنّها سلطة لها حق التشريع لتنظيم علاقة الأفراد بالدولة وبين بعضهم بعضا، وتكفل تطبيقها سلطة تنفيذية «حكومة»، ويفرض الجزاء على من يخالفها أو يمتنع عن تنفيذها، قضاء مستقل، فإن الدعوة الى حكم القانون تعني حصراً علاقة الفرد، المواطن بسلطة بلده، وعلاقة السلطة به، وهو ما يمكن أن نطلق عليه صفة المواطنة بمعناها الحديث، المكفول من جانب سيادة القانون، لاسيما بعلو أحكامه باعتباره خاصة من خصائص الدولة العصرية.

وحكم القانون هو شكل من أشكال إدارة الحكم، خصوصاً إذا اعتمد على مبدأ المساواة وعدم التمييز، بإخضاع الجميع بمن فيهم الحكام وجميع المؤسسات والهيئات العامة والخاصة لحكم القانون والمساءلة والمساواة أمامه بهدف تحقيق العدالة وإنصاف المظلومين عبر قضاء نزيه وفعّال ومستقل، بحيث يمكن حماية الإنسان وحقوقه، فضلاً عن مشاركة الجميع وحقهم في صنع القرار وتوّلي الوظائف العامة من دون تمييز.

ولكن من الذي يحدد حكم القانون؟ هل هي سلطة إلهية أو موروثة أو انقلابية بحجة دينية أو قومية أو طبقية؟ وكل ذلك كان سبباً من أسباب تعطيل حكم القانون في أحيان كثيرة، بإخضاعه لمصالح خاصة وضيقة، وتحت ذرائع أو مسوّغات غالباً ما تكون «غير قانونية»!

أما في الدولة العصرية فتوجد دساتير تحدد سيادة القانون من خلال اعتماد مبادئ قانونية وتوجهات دستورية، لرسم الحدود الفاصلة بين صلاحيات سلطات الدولة الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتنظيم التعاون فيما بينها بما يؤدي إلى تحقيق العدالة من خلال المساءلة والمسؤولية في تطبيق القانون.

ويعتبر العدل من أهم أركان حكم القانون لاسيما بالمساواة وبعدم التمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو الدين أو اللغة أو المنشأ الاجتماعي أو الاتجاه السياسي، الأمر الذي يقتضي وضع مسافة واحدة بين الأفراد والقانون وسلطة الدولة، بحيث تضمن الحقوق المتساوية للجميع.

وحكم القانون يقتضي توافر عنصر الإرادة الشعبية للتعبير عنه وذلك عبر إجراء انتخابات دورية وديمقراطية حرة ونزيهة، لاختيار الحكام واستبدالهم نزولاً عند رأي الشعب صاحب السلطة والسيادة، الأمر الذي يستوجب الامتثال لإرادته، خصوصاً بتوسيع دائرة المشاركة، ولاسيما من جانب مؤسسات المجتمع المدني، التي تعتبر شريكاً ورقيباً وقوة اقتراح يمكن أن تسهم في تعزيز حكم القانون. ولعل هذا هو الركن الثاني لحكم القانون.

أما الركن الثالث فيتعلق بخضوع الحكام مثلهم مثل غيرهم لمبدأ حكم القانون، الذي يقيّد سلطتهم ويجعل المواطنين متساوين، لاسيما أمام القانون، الذي تسنّه سلطة يفترض فيها التمثيل الشعبي عبر الانتخابات الحرة النزيهة، والتي يتوّلى السهر على تنفيذ أحكام القانون قضاء مستقل ونزيه ومحايد، بحيث يصون الشرعية ويؤمن مستلزمات تحقيق العدالة.

وهكذا فإن دولة القانون لا تقوم إلاّ في ظل دولة تنبثق فيها السلطة من حكم القانون، وتعود لتنضبط بالقانون الذي هو تعبير عن إرادة المواطنين، الأفراد، الأحرار، المتساوين ويكون القانون حامياً لحقوقهم، وهو فوقهم مثلما هو فوق الحكام!

إن حكم القانون هو وحده الذي يؤمن حماية متساوية لحقوق الإنسان التي لا يمكن أن تكون مكفولة ومضمونة، إلاّ في حمى القانون، حتى إن تضمنتها معاهدات واتفاقيات دولية ووردت في نصوص دستورية، وهكذا يشكّل احترام هذه الحقوق معياراً أساسياً للحكم الصالح وتأكيداً على دولة القانون التي تتولى حماية حقوق الإنسان كافة.

وقد وصل الفقه الدولي المعاصر إلى تأكيد عدد من المعايير والمؤشرات لحكم القانون، باعتبار الحكم الصالح بما فيه حكم القانون مدخلاً مهماً لتحقيق التنمية البشرية، وقد عبر الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان عن ذلك، حين قال «الحكم الصالح هو الوسيلة الأهم لتحقيق التنمية والقضاء على الفقر».

وحسب تقارير الأمم المتحدة، فإن حكم القانون هو أحد المقاييس التي يقاس بها مدى اقتراب الحكم من الصلاح أو عدمه، خصوصاً وهو ضمانة لتحقيق الشفافية والمساءلة، إضافة إلى المشاركة الفاعلة، لاسيما لمؤسسات المجتمع المدني.

إن حكم القانون هو الضمانة الحقيقية للأفراد والمجتمع في حماية حقوقهم وحرياتهم، على أساس المساواة وعدم التمييز، فضلاً عن ذلك فهو وسيلة رادعة ضد الفساد الإداري والمالي والسياسي، وضد سوء الاستخدام أو التبديد للمال العام.

ولعل حكم القانون يعتبر الأساس في الأمن الاجتماعي والتطامن السياسي والتعايش المجتمعي، لأنه يشكل أحد مقوّمات الأمن الإنساني، ومن دون حكم القانون، لا يمكن تأمين احترام حقوق الإنسان ولا محاسبة الحكومة أو مراقبتها، ولا إجراء الانتخابات الحرة النزيهة، ولا تطوير المجتمع المدني ولا احترام دور الإعلام في التنمية وتعزيز المشاركة، وهذه المبادئ كانت قد ذهبت إليها الوثيقة المفتاحية التي عرضتها الجهة المنظمة لندوة عمان المهمة حول حكم القانون.

وإذا كانت الهوة سحيقة بين التطور الدولي ومجتمعاتنا بشأن مسألة حكم القانون، فإن القضية المركزية التي ستظل تشغل العالمين العربي والإسلامي بشكل خاص و«العالمثالثي» بشكل عام، هي كيف السبيل لإنفاذ حكم القانون، خصوصاً أن القناعة بدأت تتعزز بأننا لا يمكن الخروج من غلواء التخلف والتعصب وعدم المساواة واللحاق بركب العالم المتقدم، دون تحقيق حكم القانون، الأمر الذي يتطلب أولاً وقبل كل شيء وضع القانون فوق الجميع، وهذا يقتضي رصداً دقيقاً لتطوير منظومة القوانين والمؤسسات والممارسات في العالم العربي بما تستجيب إليه ظروف وحاجات المجتمعات العربية ودرجة تطورها، والسعي لمواءمة ذلك مع المعايير الدولية بما يؤدي إلى تفاعل الخصوصية الثقافية والقومية مع التطور الكوني.

وإذا كانت قضية تأمين حكم القانون في الدول العربية مسألة أساسية، فهي تقتضي بداية تحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وقانونية من شأنها أن تزيد من فاعلية مشاركة مؤسسات المجتمع المدني، فلا يمكن تأمين حكم القانون دون تعاون طرفي المعادلة (الحكومات والمجتمعات)، بما يساعد في تحقيق التنمية البشرية بجميع أركانها.

* باحث ومفكر عربي