واحة كان اسمها الجهراء
أصدقاء الطفولة وأنا أقرأ أسماءهم على لافتات قماش منقوشة بألوان زاهية، وأتخيل ما فعله الزمن الطويل بملامحهم، أسأل مرافقي: أين يسكنون؟ ونحن نقترب من مساكنهم، يشير بيده «هنا»، لكنه لا يشير الى شيء محدد. مساكن متلاصقة لا تجمعها هوية معمارية ثابتة. يوحدها كيمياء الاسمنت وفلز الحديد، بعضها يرتفع أعلى مما ينبغي والبعض الآخر ينخفض أكثر مما يجب، كأنها قلاع متنافرة بألوان متباينة. على جانبي الطريق تتزاحم سيارات تقاوم الشمس وكرة الأطفال وخراطيم مياه السائقين الغرباء، قال صاحبي: ربما هذا البيت أو ذاك، كان لابد أن نسأل كي نصل، قاد السيارة صبي ترك الكرة وركض الى جانبنا قبل أن يتوقف مشيرا هنا ذلك المنزل.
هل هذه هي الجهراء؟ قلت بصوت عالٍ لم يعتبره صاحبي سؤالا، أو اعتبره سؤالا غبيا فلم يرد. تمددت الجهراء أسمنتيا حتى «أمغرة» جنوبا، وترامت حتى «المطلاع» شمالا، أكلها الاسمنت وانتشرت فيها «المولات» والمراكز التجارية، تغير اسمها من واحة وقرية الى مدينة قبل أن تصبح محافظة. في كل زيارة الى الجهراء ألاحظ أنها تتغير كثيرا، تختفي ملامحها وتتشكل ملامح جديدة، المساحات الخضراء التي كنا نعبرها من شمالها الى جنوبها، أصوات مضخات الآبار التي ترتجف كقلب عاشق، شجر السدر الذي نقطف ثماره بفرح الصبية، عصافيرها وحمامها البري الذي يقع فريسة حبائلنا، كل ذلك اجتثته أسنان المعدن ليرتفع مجمع تجاري هنا وسوق هناك. حتى مجانينها اختفوا وكأن هذا المعمار الباهت هو المجنون الوحيد فيها. أنا لست ضد التقدم، ولست من عشاق الماضي والمتعلقين به، لكن ما كنت أتمناه أن تُستغل الصحراء الواسعة المحيطة بالجهراء لبناء مدينة عصرية جميلة، وأن تبقى واحات الجهراء الخضراء كما هي. لماذا نقتل الأخضر الجميل ونترك الأصفر يحيط بنا كما هو؟ لماذا هذا العنف المعماري من دون أن نترك ميادين خضراء عليها نصب تذكارية لشهدائها من البدو والحضر؟ الجهراء صدر الكويت الأول الذي يتلقى عنها أولى الهجمات ويحمي تخومها برجاله، لن يجد أبناء الأجيال القادمة ما يذكرهم بها، كنت أتمنى أن يُقام فيها مشهد نحتي يدل على معركة الجسر الشهيرة في الثاني من أغسطس 1990، كنت أتمنى أن يقام متحف جميل يصور قتال ألويتها الباسلة التي كانت تحيط بها من كل جانب، كنت أتمنى أن يتنازل أحد هؤلاء التجار عن ايرادات مجمعه لسنة واحدة ليشيد لنا مركزا أو مجمعا فنيا تُقام فيه معارض تشكيلية ومسرحيات تتناول تاريخها الجميل، وكنت أتمنى وربما سأبقى أتمنى الى الأبد.ما أزعجني كثيرا هو الشكل المعماري الجديد للقصر الأحمر، كان يمكن ترميمه اذا لزم الأمر بطريقة لا تخفي ملامحه الأصلية، فنحن الآن أمام قصرين مختلفين يمثل الأول ذاكرتنا ويمثل الثاني ذاكرة أبنائنا، وشتّان بين الذاكرتين.أعرف أن السلوك المعماري الجديد لأغلب المدن في الكويت يحتاج الى نظرة أخرى، لكن بناء مدينة جديدة يجعل الأمر أكثر يُسراً.