الاستبداد ... ومصادر الشرعية
يبدو أن هناك إقبالا، متفاوت الدرجة متباين الإحكام، لا ينتسب إلى منطقة دون سواها، على ما يمكن تسميته بالنصّية الدستورية، لم يكن في ما مضى، خصوصا في أعقاب الفترة الاستعمارية وبلوغ «بلدان الجنوب» الاستقلال ومسارعتها إلى إنشاء الدول-الأمم، بالهاجس الأول لدى تلك النخب الجديدة.فمن روسيا التي تقيد رئيسها السابق، فلاديمير بوتين بأحكام الدستور الذي لا يخوله أكثر من ولايتين متعاقبتين، فاكتفى برئاسة الحكومة مع أنه لا يساور أحدا شك، لا في روسيا ولا في خارجها، بأنه هو المزاول الفعلي للسلطة العليا، عبر رئيس جديد، ديمتري مديفيديف، هو الذي اختاره ورشحه وبوأه، يتولى مقاليد الأمور من خلاله، إلى جزائر عبد العزيز بوتفليقة التي عدلت دستورها أخيرا، لكي تمكن رئيسها من ولاية ثالثة، إلى ظواهر متعددة، من هذا القبيل أو من ذاك، جدت في السنوات الأخيرة في حالات وفي أماكن متعددة.
لسنا نريد تناول هذا الأمر من باب الإدانة، فذلك ما قد يكون في نهاية مطافه سهلا، لا يكلف صاحبه في الغالب، لا سيما إن لاذ بتعميم يتجنب التخصيص، سوى الحبر الذي كُتب به، هذا ناهيك عن أن المعترضين في ذلك الصدد، لا ينذرن، في شأن إعادة إنتاج الاستبداد، إلا بما هو أنكى أو أنهم يعجزون عن استدراج البديل عما يفضحون، وعن أن حجة الأنظمة، أو بعضها على الأقل، ورجالاتها، في حالات وإن لم يكن في كلها، من أن الظروف قد لا تكون ناضجة للديمقراطية أو للذهاب في إرسائها أبعد (لمن يعتقد بأنه قد حقق في سبيل إرسائها نصيبا) ليست مردودة بالكامل ودون مساءلة، تشوبها الشبهة لمجرد كونها صدرت عمّن صدرت.كل ذلك للقول إن تلك النصيّة الدستورية ربما تطلبت توقفا عندها، وإن مع الإقرار بكل حدودها، علما بأن الاقتصار عليها في هذا المجال ليس استنقاصا لسواها من العوامل واستخفافا بها. صحيح أن تلك النصيّة الدستورية تشوبها استدراكات كثيرة، أولها أن التقيد بالنصوص الدستورية كثيرا ما يتحقق، في مثل تلك الحالات، من خلال انتهاكها، بواسطة ما يُعرف بإجراء تعديلات «حسب المقاس»، وأن في ذلك ما من شأنه أن يضفي على ذلك الأمر نسبيةً لا تُجحد، ولكن يبقى أن ذلك الإصرار على نصيّة الدستور، حتى ضمن تلك الحدود والمحددات، ذو دلالة يتعين أن تُستنطقُ، أقلّه كفرضية بحث. أما الدلالة تلك فهي قد تكون المتمثلة في أن الاستبداد أو التسلط أو الانفراد وما إليها من أشكال الحكم، كانت «تتمتع» في ما مضى بشرعية ما عادت الآن من نصيبها، كانت تستقيها من إيديولوجيا ثورية تأخذ بها، أو من سيرة القائد المؤسس والجيل الذي اجترح الاستقلال وتولى إنشاء الدولة. وكان العاملان ذانك، كلا منهما على حدة وخصوصا إن تواشَجا، كفيلين بتأسيس أهلية للاضطلاع بالسلطة، «طبيعية» أو تكاد، تنأى بصاحبها عن كل مساءلة، تصدر عن مرتبة متعالية (الإيديولوجيا أو الدور التاريخي التأسيسي) ليست، بصفتها تلك، في حاجة إلى مصادقة تأتيها من تحت، إلا على سبيل التصفيق والمباركة. وهكذا، لم يجد جيل الآباء المؤسسين، من قادة استقلال ومن أصحاب الوعود الإيديولوجية الكبرى، بالغ المشقة في إرساء سلطانهم ولا اكترثوا يوما بالدساتير ولا اهتموا بمقتضيات بنودها إلا لماما.لم يبق لمثل ذينك العاملين من فعل، إما بسبب تغير الظروف وإما لسبب جيلي أو بيولوجي، وأضحى ورثة ذلك الجيل المؤسس في غير وارد الاكتفاء بمرتبة متعالية يصدرون عنها محض إملاء، بل باتوا ينشدون مصادقة المحكومين، يُستنهضون، أو يصار إلى استنهاضهم بواسطة أحزاب، حاكمة أو موالية للحاكم، كثيرا ما تكون، وتلك حقيقة موضوعية، الوحيدة الحائزة على صفة «الجماهيرية»، تستبق مطالب التمديد وترفعها أو تتظاهر بذلك، ثم تدرجها في الدستور بندا مُلزما، صدر عن المراتب الدنيا أو اكتسب تلك الصفة. لنترك إذن جانبا الخوض في استبدادية مثل تلك الأنظمة من عدمها، خصوصا أن الخوض ذاك غالبا ما يكون مُغرضا من الجانبين، لنتوقف عند ذلك التغير في مصادر الشرعية والذي قد يكون التحول الأهم والأبعد غورا، وإن لم يفض، أو لم يفض بعد، إلى الديمقراطية، أو حتى إلى مجرد الاقتراب منها، لأنه يلجأ في حالات كثيرة، وليس في كلها (وذلك ما يتطلب تنويها)، إلى الاصطناع أو إلى الافتعال.وهكذا، فإن التحول ذاك، بالرغم مما قد يرى من هم في عجلة من أمرهم دون امتلاك أسباب الخلوص إلى إلديمقراطية، قد يكون من أوكد الطرق المفضية إلى هذه الأخيرة في يوم من الأيام، أقلّه لأنه أعاد السلطة، من حيث لا يدري ربما، إلى ملكوت الأرض والسياسة، فإذا هي صراع لا أكثر، قد يكون مفتوحا بالرغم مما قد يوحي ظاهر الأمور.* كاتب تونسي