ابتداء من مطلع نيسان (أبريل) 1977، غدا تهرُّب منظمة التحرير من تنفيذ مقررات قمتي القاهرة والرياض أمراً مفضوحاً بعدما كانت المماطلة في المرحلة السابقة تندرج في خانة التسويف والتذرع وطلب المزيد من الوقت. وفي الخامس عشر منه، أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية تحفظها زاعمة أن تفسير الرئيس اللبناني لاتفاق القاهرة يتضمن أموراً لم ترد أصلاً في الاتفاق. وقالت المنظمة إنه تفسير من جانب واحد، مظهرة اتجاهاً لعدم تطبيقه. واتخذ مندوب الكويت آنذاك السفير عبدالحميد البعيجان موقفاً مماثلاً لموقف المنظمة لأن قمة القاهرة، بحسب تعبيره، «حدّدت مهمة اللجنة الرباعية بالعمل على تطبيق اتفاق القاهرة كما هو موضوع، وبما أن التفسير الذي وضع يتضمن أموراً خارجة عن الاتفاق، فإن اللجنة تجد نفسها غير مؤهلة لتطبيقه لعدم الصلاحية». وفي أيار (مايو) وحزيران (يونيو) 1977، بدأنا، الرئيس سركيس وأنا، نخشى إخفاق اللجنة الرباعية لاسيما أننا لاحظنا أن ثمة تواطؤاً خفياً بين بعض أعضاء اللجنة وياسر عرفات والفلسطينيين.

Ad

المقاومة تتنفس في لبنان

تكوّن لدينا في ذلك الحين انطباع أن العرب عموماً والمسؤولين في القاهرة وفي الرياض والكويت خصوصاً، يشعرون بأنهم لم يستطيعوا أن يحققوا شيئاً للقضية الفلسطينية التي كانت تحظى باهتمام كبير في وجدان الشعوب العربية، وبالتالي لم يكونوا راغبين في المضي في عملية تؤدي إلى تحجيم منظمة التحرير، ولو أتى ذلك على حساب سيادة لبنان واستقراره. وقد تأكد لي هذا الانطباع عندما زرت القاهرة في الثلاثين من حزيران (يونيو)، والرياض في الرابع والخامس من تموز (يوليو)، والكويت في العاشر والحادي من الشهر نفسه، وأيضاً حين أسر لي وزير دولة خليجية على هامش أحد آخر اجتماعات الجامعة العربية التي عقدت في القاهرة حيث وقع تصادم بيني وبين ممثل منظمة التحرير الفلسطينية قائلاً: «إننا نعرف أنكم محقون ولكن أحداً منا لا يستطيع الانحناء لمساعدتكم لأن أرضكم باتت كأنها مغمورة بالصابون وكل يخاف أن ينزلق ويقع فوقكم إن مدّ إليكم يد المساعدة». أما الأمين العام لجامعة الدول العربية محمود رياض فقد قال لي يوماً: «إن المقاومة الفلسطينية لا تستطيع أن تتنفس إلا في لبنان، لهذا السبب لا يمكن أن نحد من نشاطها».

على رغم القرارات التي اعتمدتها اللجنة الرباعية العربية حول ضرورة تنفيذ اتفاق القاهرة وضبط السلاح الفلسطيني في لبنان، اعترض ممثلو مصر والسعودية والكويت على صلاحية الرئيس اللبناني في تفسير اتفاق القاهرة من جانب واحد زاعمين أن أي تفسير للاتفاق يحتاج إلى موافقة منظمة التحرير الفلسطينية. في المقابل، أصر رئيس الجمهورية، باسم السيادة اللبنانية، على حقه المطلق في التفسير، ودعا أعضاء لجنة المتابعة لمشاركته في إيجاد تفسير موحد للبنود المختلف عليها مع الفلسطينيين. فوافقت اللجنة بالإجماع، بعد اجتماعات عدة، على تفسير موحد ومقبول من الجميع، وأخذ سفيرا السعودية والكويت على عاتقهما مهمة إقناع ياسر عرفات الذي كان رافضاً له. عندها طلب الرئيس سركيس من أعضاء اللجنة الرباعية التوقيع على ما تمت الموافقة عليه بالإجماع حول التفسير وتكليف قوات الردع العربية تنفيذ اتفاق القاهرة. غير أنه فوجئ بطلب ممثل الكويت التريث في التوقيع وتأجيل الاجتماع بناء على طلب حكومته. ثم أعلن ممثلو مصر والسعودية والكويت في الاجتماع التالي امتناع دولهم عن توقيع التفسير المشترك لأسلوب تنفيذ اتفاق القاهرة وعن إصدار الأوامر للتنفيذ بحجة أن «الظروف غير ملائمة»، وألمحوا إلى بروز حاجة لعقد قمة عربية عادية أو مصغّرة لإعادة النظر في بعض مقررات قمتي القاهرة والرياض. وفي مساء اليوم نفسه، اجتمعت مع رئيس الجمهورية وتباحثنا في المستجدات، وطلب مني القيام بجولة على كل من دمشق والقاهرة والرياض والكويت لكي نحاول إقناع المسؤولين فيها بمساندة تطبيق اتفاق القاهرة وضبط الفلسطينيين.

«مقترحات» خدام

قبل البدء بالجولة، زرت بعد ظهر الحادي والعشرين الرئيس كميل شمعون العائد من زيارة للعاهل الأردني الحسين بن طلال وللمسؤولين السوريين، للاطلاع على فحوى محادثاته في كل من عمان ودمشق. وقد نقل لي انطباعه بأن الملك الهاشمي حريص على «إقامة علاقات تعاون وثيقة بين الأردن وسورية في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية»، وأنه يؤيد فكرة عقد سلام محتمل مع إسرائيل، إذا كان شاملاً ولا تتحفظ عنه الدول العربية. وتطرقنا إلى موضوع الوفاق السياسي ودور قوات الردع العربية في لبنان وبخاصة في ضبط المنظمات الفلسطينية التي لاتزال ناشطة جنوباً، وقد لمس الرئيس شمعون تشاؤمي حيال إمكان التوصل إلى حل لهاتين المسألتين، على ما كتب في مذكراته. كان من الطبيعي أن أبدأ جولتي العربية، في الثالث والعشرين من حزيران (يونيو) بزيارة دمشق حيث اجتمعت أولاً بنظيري عبدالحليم خدّام الذي أثار مسألة تطبيق اتفاق القاهرة مشدداً على تمسك سورية بمبدأ إعطاء الرئيس اللبناني حق تفسير الاتفاق. وبدا لي أن لدى وزير الخارجية السورية معطيات جديدة حول الموقف الفلسطيني من تطبيق اتفاق القاهرة، وقد أكد أن الفلسطينيين سوف يباشرون تنفيذه ابتداء من السابع والعشرين من الشهر نفسه أي بعد أربعة أيام، وأن المرحلة الأولى من التنفيذ ستشمل:

1- إخلاء الفلسطينيين للأحياء البيروتية والانكفاء إلى المخيمات.

2- إخلاء الأسلحة من المخيمات وتجميعها في قواعد مخصصة لها.

3- تكليف قوات الردع بالتفتيش على باب المخيمات.

4- تسليم الكفاح المسلح الأمن الداخلي في المخيمات.

ولفت خدام إلى أن المرحلة الثانية من تنفيذ اتفاق القاهرة ستتضمن، حكماً، «تطبيق القانون اللبناني في المخيمات الفلسطينية وما يستدعي ذلك من تسليم العدالة اللبنانية المطلوبين منها».

ثم تطرق بعدئذ إلى المسائل السياسية اللبنانية. وقال إن الرئيس سركيس لم يقرر بعد اتخاذ قرار تاريخي لأن «مشروع الاتفاق السياسي الذي يفكر فيه سيعيد لبنان إلى الوراء وبنتيجته ستشجعون الشيوعيين على استعادة قوتهم». ورأى أن على رئيس الجمهورية أخذ المبادرة والإقدام والانطلاق بروحية الوثيقة الدستورية التي نتجت عن الحوار بين الرئيسين سليمان فرنجية ورشيد كرامي برعاية سورية في الرابع عشر من شباط (فبراير) 1976. وقدّم جملة «مقترحات» تُمكّن الرئيس سركيس، بحسب رأيه، من جعل عهده عهد إنقاذ للبنان. وقال إن الفقرة الثالثة عشرة من الوثيقة الدستورية التي تنص على «العمل على تحقيق عدالة اجتماعية شاملة، من خلال الإصلاح المالي والاقتصادي والاجتماعي»، من شأنها أن تؤمن للرئيس قاعدة شعبية «وإلا فأنتم مهددون بانقلاب في لبنان». ودعا خدّام إلى اعتماد كتاب مدرسي موحّد فأفهمته بأنني سبق أن حاولت ذلك في عام 1966 عندما كنت وزيراً للتربية وقد تبيّن لي أن الأمر مستحيل. كما شدّد على إلغاء الطائفية في الوظائف العامة، وتنظيم الإعلام العام والخاص، واستبعاد فكرة تشكيل مجلس شيوخ، ووضع قانون انتخابي غير طائفي. لكني أوضحت له أن الاقتراح الأخير مستحيل على الأقل في ظل المعطيات الراهنة.

تسريح الجيش

رأى عبدالحليم خدام رئيس الدبلوماسية السورية أن الرئيس سركيس يحتاج لكي ينجح مشروعه الإنقاذي إلى «تشكيل حكومة جديدة تعتمد هذا البرنامج وتتعهد بتنفيذه في بيانها الوزاري، أو على الأقل تعلن التزامها بالوثيقة الدستورية». ودعا رئيس الجمهورية إلى التخلي عن فكرة عقد حوار وطني والاكتفاء باستدعاء من يريد من الشخصيات فردياً لإقناعها بالمشروع وبعدها بإمكانه أن يدعو إلى أي اجتماع يريده. وفي موضوع الجيش اللبناني قال: «لا نستطيع أن نتحمل الذين ذهبوا إلى إسرائيل أو تعاملوا معها. ما رأيكم في الاقتراح الذي طرحه الرئيس كميل شمعون وهو تسريح كل الجيش ومن ثم تعيدون إليه من ترون فيه المؤهلات المطلوبة ومن ثم تفتحون باب خدمة العلم وباب المدرسة الحربية على مصراعيهما». وعندما أثرت مسألة الضابط أحمد الخطيب ومن التحقوا به أبدى خدّام تأييده لفكرة صرفهم من الخدمة. واتفقنا على مبدأ إرسال قوة عسكرية لبنانية إلى المناطق الجنوبية التي لا يمكن لقوات الردع العربية الدخول إليها وقال: «على جماعة فتح أن يُصفّوا الوجود الرفضي هناك أو على الأقل أن يساعدوكم على ضبطهم».

ثم عقدت اجتماعاً دام ساعتين مع الرئيس السوري حافظ الأسد الذي لفتني عدم التزامه بموعد محدد لمباشرة تنفيذ اتفاق القاهرة على عكس وزير خارجيته. واستنتجت من الحديث معه أنهم سيجتمعون بالفلسطينيين بين السابع والعشرين والثلاثين من حزيران (يونيو)، وأنهم يعتقدون أن مصر والسعودية والكويت باتت مهيأة بشكل أفضل للمساندة في تنفيذ الاتفاق. كانت محاور الاجتماع مع الأسد هي نفسها محاور اجتماعي مع خدّام ولكن مع إبداء تساؤلات أكثر من جانبه حول وضع الجيش عندنا. فأفهمته أننا لا نستطيع أن نساوي بين الخطيب وجماعته وبين الفئة التي قاتلت دفاعاً عن الشرعية. وعندما قلت له: «إن الرئيس سركيس لا يستطيع أن يتحمل مبدأ المعاملة بالمثل بين الطرفين لأنه ليس مقتنعاً بالأمر ولا يستطيع أن يقتنع به»، بدا الرئيس السوري محتاراً بعد كلامي. واتفقت معه بالنتيجة على إرجاء البحث في هذا الموضوع إلى زيارتي التالية للعاصمة السورية المرتقبة بعد جولتي العربية. وبشأن توسيع الحكومة والدخول في حوار وطني من أجل ذلك، لم يبد الرئيس السوري معارضة من حيث المبدأ.

الرهن السعودي لسورية

زرت مصر نهاية حزيران (يونيو) 1977، واجتمعت، في التاسع والعشرين منه، مع الرئيس أنور السادات ووضعته في أجواء ما يحصل في لبنان من اختلاف حول تطبيق مقررات قمتي الرياض والقاهرة من جانب أعضاء اللجنة الرباعية العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية وبخاصة تطبيق اتفاق القاهرة. وتبين لي من خلال النقاش مع السادات أنه راغب في إعادة النظر بقرارات القمتين العربيتين المذكورتين. فقد دعا إلى اتفاق شامل وجديد قبل تنفيذ اتفاق القاهرة وكشف عن نيته في الدعوة إلى مؤتمر قمة مُصغّر سداسي للبحث في الشأن اللبناني «نستمع فيه إلى جميع الأطراف اللبنانية ثم نجبرها على الوفاق كمدخل للحل مع المقاومة، وسنفرض هذا الحل بحيث ينضبط الفلسطينيون ولا تمس سيادة لبنان». وقال لي إنه يعتبر أن التوفيق بين اللبنانيين والفلسطينيين من جهة وبين السوريين والفلسطينيين، من جهة ثانية، أمر ضروري كي تنجح المساعي الحميدة لحل الأزمة اللبنانية.

ومن جملة ما قاله لي: «قد يكون لديكم إحراج حيال سورية في الدعوة الى قمة عربية مصغرة سداسية ولكنني مستعد أن أنادي بالفكرة وأخولكم أن تبلغوا السعودية أني اقترحتها وأني لا أرى بديلاً عنها في الظروف الحالية، متى أرادت السعودية شيئاً وصممت عليه فلا بد أن تمتثل سورية لأنها مرتهنة تماماً للسعودية. ومتى أعلنت مصر كلمتها فسيكون لها صداها في العالم العربي».

ثم أعرب عن اعتقاده بأن اتفاق القاهرة غير قابل للتطبيق قطعاً بشكله الحالي وفي الظروف الراهنة مبدياً استعداده للنظر في تعديل هذا الاتفاق وفق مقتضيات المعطيات الحالية «لأنه ليس منزلاً بالنسبة إليّ». ورأى الرئيس المصري أن «لبنان يجب أن يعود كما كان، بصيغة 1943 أو ببديل عنها يجري الاتفاق عليه بين اللبنانيين دون أن ننصر أحداً على الآخر: لا غالب ولا مغلوب!»

وعندما قلت له إنه من غير المناسب أن تُدعى الدول العربية إلى عقد قمة جديدة من أجل بحث الأوضاع في لبنان قبل تطبيق مقررات القمة السابقة، أجابني: «لقد تغيّرت المعطيات، منذ قمتي الرياض والقاهرة، فإذا عُقد مؤتمر قمة آخر فإني أضمن شخصياً تطبيق مقرراته، وإني مستعد للذهاب إلى بيروت، والبقاء فيها كل المدة اللازمة لحل الأزمة اللبنانية نهائياً، إني أستطيع إنجاز ما لم تستطع سورية متابعته بسبب سوء تصرفها، إن القضية أكبر من سورية ويجب أن ننقذها لأن جيشها بعدما خرج من المعركة غرق في الرمال اللبنانية». كما قال لي إن تقارير الصحافيين المصريين الموجودين في سورية أشارت كلها إلى أن دمشق لن تقبل إلا بالسيطرة نهائياً على لبنان. ولفت إلى معلومات لديه تفيد بأن ثمة اتصالات مهمة تجري بين الرئيس كميل شمعون والإسرائيليين. وعن مؤتمر جنيف الذي كانت تعمل الولايات المتحدة على إعداده، قال الرئيس المصري: «يجب أن تذهبوا إلى جنيف ولن أذهب إلى هناك من دونكم».

السادات يبحث عن ذاته

وأثار السادات أثناء لقائي معه موضوع الاتحاد الكونفدرالي بين لبنان وسورية والأردن والفلسطينيين الذي كانت دمشق تروج له في تلك الفترة. وقال لي: «إن حافظ الأسد فاتحني بالموضوع وبرغبته في تحقيقه، ولكنني قاومت ذلك بالنسبة إلى لبنان والفلسطينيين». وأخبرني أنه بحث المسألة أيضاً مع الرئيس الأميركي جيمي كارتر الذي عارض بدوره فكرة قيام هذا الاتحاد. واستطرد الرئيس المصري في حديثه عن الرئيس كارتر مادحاً خصاله ومعرباً عن ثقته به وبأخلاقه. من جهتي أوضحت لمضيفي أن أحداً لم يفاتحنا بأي توجه لإنشاء اتحاد كونفدرالي.

خرجت من هذا اللقاء بانطباع نقلته لاحقاً إلى الرئيس الياس سركيس مفاده أن السادات ليس مع الفلسطينيين، ولا مع السوريين، ولا مع اللبنانيين، إنه فقط مع السادات. وهو يتحرق توقاً إلى القيام بدور حاسم في لبنان، وهذا الدور هو، في نظره، وسيلة لتعزيز نفوذه وهيبته على ثلاثة صعد: المصري، والعربي، والدولي.

كنت التقيت في القاهرة قبل ظهر اليوم السابق نظيري إسماعيل فهمي الذي أخبرني أن اتصالاً بين بلاده والسعودية أجري في اليوم السابق «بعد مقابلتكم سيادة الرئيس السادات، ولقد أطلعنا المسؤولين السعوديين على وجهة نظرنا وضرورة عقد قمة مصغّرة مع علمنا أن سورية لن تقبل بها ما لم تفض إلى إعطائها تفويضاً على بياض بتنفيذ مقرراتها بالوسائل التي تريد، وهذا أمر غير ممكن، لأنه لم توجد دولة عربية قادرة على إعطائها هذا التفويض، كما لن تقبل دمشق بإشراك دولة أخرى في معالجة الأزمة اللبنانية لأن ذلك سيحد من نفوذها، محكوم عليكم أن تصطدموا مع السوريين لأنهم سيطلبون منكم أن تذهبوا إلى أبعد مما تريدون، لقد سبق أن قلت هذا الكلام للرئيس سركيس في الرياض في العام الماضي». وفي موضوع الاتحاد الكونفدرالي، قال فهمي: «العمل عليه يجري بصورة غير رسمية وعلى مستوى خلق جو ملائم له لدى المواطنين والأحزاب والقوى السياسية». كما اجتمعت في اليوم نفسه مع الأمين العام لجامعة الدول العربية محمود رياض الذي صرّح بعد مغادرتي لمقر الجامعة بأنني أبلغته أن الرئيس الياس سركيس يرى أنه من الضروري توافر حد أدنى كاف لنجاح مؤتمر القمة وأنه «يفترض أن يسبقها، في حال توافر المناخ الملائم، اجتماع لوزراء الخارجية العرب للاتفاق على جدول أعمالها». وأوضح رياض أنه بحث معي في تطورات الموقف في لبنان والمتاعب في الجنوب اللبناني والعلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة اللبنانية والخلاف الحاصل حول تفسير اتفاق القاهرة.

مطلب المملكة

عدت إلى لبنان مساء الخميس في الثلاثين من حزيران (يونيو) 1977، ثم سافرت إلى المملكة العربية السعودية، في الرابع من تموز (يوليو)، في زيارة استغرقت يومين، شعرت فيها بأن موقف الرياض مطابق لموقف القاهرة لكن مع فارق واحد هو تسليم المسؤولين السعوديين لسورية بدور خاص في لبنان، وامتناعهم عن توجيه أي انتقاد علني إلى دمشق، ولمست تنسيقاً في العمق بين القاهرة والرياض، مع رغبة سعودية في المحافظة على مظهر الحياد بين الأفرقاء اللبنانيين، وهذا موقف تتمسك به الرياض تجاه النزاعات العربية. وأبدى الملك خالد ووزير الخارجية سعود الفيصل ميلهما إلى عقد قمة عربية مُصغّرة جديدة بعد إزالة سوء التفاهم الواقع بين مصر وسورية، وبدا لي أن المسؤولين السعوديين يربطون تطبيق اتفاق القاهرة بالوفاق بين المسلمين والمسيحيين في لبنان، وقد أعربوا عن نيتهم في القيام بمبادرة في هذا الاتجاه، لكنهم لا يقبلون بممارسة الضغوط على المنظمات الفلسطينية لتطبيق اتفاق القاهرة. أما ما فهمته من غير أن يقوله المسؤولون السعوديون فهو أن المملكة العربية السعودية تشترط لتطبيق اتفاق القاهرة حصول المسلمين اللبنانيين على ضمانات في شأن الإصلاحات التي كانوا يطالبون بها.

وعقدت مع نظيري السعودي الأمير سعود الفيصل جولتي محادثات قبل ظهر الخامس من تموز (يوليو) وبعده. وشددت في جولة قبل الظهر على أهمية إعادة بناء الجيش اللبناني خصوصاً بالنسبة إلى الجنوب، لافتاً إلى خطورة تعليق مسيرة الوفاق الوطني على تنفيذ اتفاق القاهرة الذي يستلزم وفاقاً لبنانياً- فلسطينياً ووفاقاً بين العرب أو على الأقل في إطار اللجنة العربية الرباعية. وتوافقنا على أنه في حال حصل توافق لبناني- لبناني فسيسهل على الدول الأربع إعطاء الضمانات إلى لبنان وإلى المقاومة مما يسهّل تنفيذ اتفاقية القاهرة.

في جلسة بعد الظهر، قال الفيصل إنه ليست لدى بلاده مخاوف بالنسبة إلى الوجود السوري في لبنان مضيفاً ان السوريين يعرفون ذلك. ثم استطرد قائلاً: «إن حدود دعمنا للمجهود السوري في لبنان هو الرغبة اللبنانية الممثلة بالرئيس سركيس، صلتكم بسورية طبيعية وعلاقتكم بها خاصة، فليس لسورية مصلحة في أن تبقى الأمور على ما هي الآن، فهي تقاسي من وجودها عندكم، هذا رأيي وهو موافق لرأيكم، وأشك في أن تكون عائقاً لإنشاء الأجهزة العسكرية اللبنانية. لا يريدونها مناوئة لهم وهذا طبيعي لكن الأمر مرهون بالإرادة اللبنانية».

رفض سعودي وفتور كويتي

وعن وجود جدوى للقمة العربية المصغرة للبحث في المسألة اللبنانية وبخاصة تطبيق مقررات الرياض المتعلقة بتنفيذ اتفاق القاهرة وجمع الأسلحة الثقيلة التي ترفض التنظيمات الفلسطينية الامتثال لها، قال وزير الخارجية السعودية: «إذا كانت القمة السداسية تحل المشكلة فليكن، ولكن تأكدوا من أنها ستحلها». وهنا وجدت الفرصة سانحة لأتساءل عن خلفيات وقف تنفيذ مقررات الرياض: «هل يجري وقف التنفيذ لإجبارنا على الاتفاق لبنانياً؟» فأجابني الفيصل: «نرفض الأولويات، أي أن يقال الوئام قبل تنفيذ اتفاقية القاهرة، ولكننا في المقابل نرفض أيضاً الأولوية الأخرى أي تنفيذ مقررات الرياض فوراً، يجب أن نسير بالأمرين معاً، فأنا أعتقد أنه إذا كان ثمة موقف لبناني موحد فلن تكون هناك مشكلة عربية، لكن المملكة لا تضغط عليكم لذلك».

وأذكر أني في أثناء الاجتماع الذي عقدته مع نظيري السعودي قلت إن الوفاق بين اللبنانيين مرتبط إلى حد كبير بالوفاق بين العرب فأجابني الفيصل مازحاً: «قد يكون من الأسهل إتمام الوفاق بين اللبنانيين قبل التوصل إلى الوفاق بين العرب». وكشفت في التصريح الذي أدليت بعد انتهاء المحادثات عن محتواها، طبعاً بتعابير دبلوماسية: «لقد لمست حرص المملكة السعودية على المصارحة في كل ما يتعلق بالمشاكل المطروحة ورغبة أكيدة في أن يسود الوفاق لبنان، وأن يسود التفاهم العالم العربي بحيث يسهل من هذه الزاوية بالذات حل كل المشاكل، وإن كان بعضها يبدو مستعصياً في الوقت الحاضر».

في الكويت، لم يكن الجو أفضل والمسؤولون الكويتيون لم يكونوا متحمسين لأي إجراء لا يحظى برضى منظمة التحرير الفلسطينية، فقد اجتمعت في الحادي عشر من تموز (يوليو) بولي العهد الكويتي الشيخ سعد الصباح الذي قال لي إنه «كان يجب إنهاء المشكلة بين السياسيين اللبنانيين في بداية عهد الرئيس سركيس ولكن هذا لم يحصل لذلك رجع السياسيون إلى «نغماتهم» السابقة، ولم يستغل الرئيس الظرف الذي كان متاحاً، فنزع السلاح لم يتم بجدية، هذا ما جعل الأمور تطول، اليوم ليس بالمستطاع فرض الحل». وعندما سألته عما إذا كان لدى الكويت رؤية للحل، أجابني: «الحل في تطبيق اتفاقية القاهرة ولكن بعد الاتفاق على التفسير. نحن مهتمون جداً بتحقيق الاستقرار في لبنان، وإذا اتفقت الدول العربية على رأي معين فلن نعارضه».

لدى عودتي إلى بيروت، اجتمعت بالرئيس سركيس ونقلت إليه الخلاصة التي كونتها وانطباعي أن الجولة لم تكن ناجحة إلا في المقدار الذي كشفت فيه حقيقة نيات الدول العربية تجاه لبنان. فهي تتعاطف معه وتريده أن يخرج من أزمته لكنها غير قادرة على تأييد كل ما من شأنه أن يعيد الأمور إلى نصابها إذا عارضته منظمة التحرير لأن لها اعتبارات أخرى تمنعها من ذلك، وشعرت بعد هذه الجولة العربية بأننا أصبحنا عالقين في دائرة مفرغة.

يتبع