قال لي دبلوماسي عربي كبير، على هامش قمة الدوحة التي عُقدت نهاية الشهر الفائت، إن بلاده "تنفست الصعداء" حين تأكدت من انسحاب خاتمي من السباق الرئاسي الإيراني المقرر في يونيو المقبل، متمنياً فوز الرئيس المحافظ نجاد بتلك الانتخابات، لكون "نجاد وأمثاله يسهلون تعرية المواقف الإيرانية المتطرفة، ويستفزون الغرب ضدها، ويضعفون شوكة حلفاء طهران في العالم العربي، أما أمثال خاتمي فيمررون المشروعات الإيرانية مغلفة بالتصريحات الناعمة والمظاهر الخادعة".
حسناً... هكذا ظهر أن نجاد مصلحة عربية، فلماذا لا يكون ليبرمان كذلك؟ على عكس ما يظن كثيرون، فإن ليبرمان لم يستهل قيادته للدبلوماسية الإسرائيلية بتدمير عملية السلام، أو الانقضاض على الاتفاقيات التي تم توقيعها بين الفلسطينيين والإسرائيليين طيلة السنوات السابقة، أو الكشف عن الوجه القبيح للدولة والمجتمع في الدولة العبرية، الرافضين للتسوية السلمية، والمعولين على استخدام القوة ضد الفلسطينيين والعرب، لحملهم على الاستسلام فقط، لكنه استهل هذه القيادة أيضاً بجسر الهوات بين المواقف العربية، وترميم التصدعات بين الفصائل الفلسطينية. نشأ خلاف في "قمة غزة"، التي أصرت قطر على عقدها في يناير الماضي مستبقة قمة الكويت الاقتصادية، بين فريقين عربيين؛ أحدهما رأى ضرورة سحب المبادرة العربية للسلام التي أطلقها العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبد العزيز، حين كان ولياً للعهد، في قمة بيروت العام 2002، بدعوى أن إسرائيل أثبتت مراراً أنها غير معنية بها، وأن الإبقاء عليها يمثل هدراً للكرامة العربية وللأوراق التفاوضية. أما الفريق الآخر فاعتبر أن الإبقاء على المبادرة من شأنه أن يحرج إسرائيل، ويبرهن للولايات المتحدة والقوى الفاعلة في الغرب والعالم على أن العرب دعاة سلام، وأن الدولة العبرية ترفض اليد الممدودة لها، وتنزع نحو العنف، مما يسهل الضغط عليها لتحقيق مكاسب للقضايا العربية. وامتد هذا الخلاف ليصل إلى القمة العربية العادية الـ21، حيث اتفق الفريقان على اتخاذ قرار "الحل الوسط"، والذي يقضي بعدم سحب المبادرة بالكامل وعدم إبقائها على الطاولة لأجل غير محدد، ومهما كانت ردود الفعل الإسرائيلية، وتوافق الجانبان بالفعل على ضرورة تحديد إطار زمني بحيث "لا تبقى المبادرة طويلاً على الطاولة" من دون أي تفاعل إيجابي معها من قبل إسرائيل. لقد وفر ليبرمان على العرب مشقة إدارة تلك الخلافات، وجنبهم معاناة إدراك الحلول الوسط، وأراحهم من مشكلات الاختلاف المقبل حول "المدة الواجب منحها لإسرائيل، لإثبات جديتها حيال المبادرة"، و"الإشارات الإسرائيلية التي يعتد بها، وتُترجم على أنها تفاعلات إيجابية، تقتضي إبقاء المبادرة وقتاً أطول على الطاولة". استهل وزير الخارجية الإسرائيلية أيامه الأولى في منصبه بقوله إن إسرائيل "غير ملزمة بأي اتفاق تم التوصل إليه خلال مؤتمر أنابوليس العام 2007، لأن الحكومة والبرلمان لم يصادقا عليه"، وبذلك يكون الرجل أعلن تنصله التام من اتفاق سبق أن وقعته حكومة منتخبة، بل أكد بوضوح معارضته لحل قائم على "شعبين في دولتين". لا شك أن كل عربي بإمكانه أن يدرك الآن أن ليبرمان قدم أفضل الخدمات للقضايا العربية وللمصالحة العربية وللحق الفلسطيني خصوصاً؛ فقد حسم الرجل أي جدل، وأزال، هو ورئيس الوزراء نتنياهو، أي لبس بخصوص المواقف التي يجب أن يتخذها العرب في الأيام العصيبة المقبلة. فها هو ليبرمان يفعل كل ما بوسعه للتأكيد على ازدرائه العرب وأي محاولة للتفاهم السلمي معهم... فينكص عن الاتفاقات السابقة، ويصرح بأن إسرائيل لن تنسحب من الأراضي التي تقوم باحتلالها، ويرفض مبدأ "الأرض مقابل السلام"، الذي تأسست عليه الاتفاقات العربية-الإسرائيلية منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي، مؤكداً أن المبدأ الذي يعتمده هو "السلام مقابل السلام". وكما كان نجاد مصلحة عربية بشكل ما، كما قال هذا المسؤول العربي الكبير، فلا بد أن ليبرمان، ومعه نتنياهو، أيضاً مصلحة عربية. فمن خلال المواقف المتطرفة للحكومة الإسرائيلية، وتصلب رئيس الوزراء خصوصاً فيما يتعلق برفضه حل الدولتين، يمكن للجانب العربي أن يجلب الكثير من الضغوط على تل أبيب. فقد توافق المجتمع الدولي على ضرورة تحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط، عبر الوصول إلى تسوية تتضمن تنازلات متبادلة من جانبي الصراع، وفق صيغة "الأرض مقابل السلام"، كما تكرست في "كامب ديفيد" و"مدريد" و"أوسلو" و"خريطة الطريق" و"واي بلانتيشن" و"أنابوليس" وغيرها من المحطات الرئيسة لإدارة الصراع الممتد منذ أكثر من ستين عاماً. وتمثل ذروة الحل المبتغى الوصول إلى إنشاء دولة فلسطينية ديمقراطية تعيش في سلام إلى جانب الدولة العبرية، وتحقق تطلعات الشعب الفلسطيني إلى الاستقلال والسلام والحرية والحفاظ على الحقوق الوطنية. وتمثل صيغة الدولتين مطلباً دولياً، كما تبلورت في رؤية أميركية واضحة في عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش، وهي تحظى بقبول ودعم معظم القوى الفاعلة في الغرب والنظام الدولي وبين شعوب العالم، كما تحظى حتى بتأييد ظاهر من أطراف إسرائيلية معتبرة مثل الرئيس شمعون بيريز وأقطاب حزب العمل وقوى اليسار المختلفة وبعض أوساط كاديما، ولذلك فإن التعارض معها يمثل صداماً مع تلك الأطراف كافة. وإضافة إلى ذلك، فإن تطرف الحكومة الإسرائيلية ومغالاة ليبرمان ووضوحه في معاداة السلام ورفضه للتسوية القائمة على التنازلات المتبادلة، من المفترض أن يدفع العرب والفلسطينيين إلى التوافق والتجانس في قراراتهم ومقارباتهم حيال قضيتهم المركزية. ترى هل سيحدث ذلك؟ * كاتب مصري
مقالات
اهلاً ليبرمان
04-04-2009