تعجب عدد من الكتّاب والمفكرين، في الآونة الأخيرة، من «برود أعصاب» بعض الشعوب العربية، فهي هادئة جدا في مواقف، آخر ما يلزمها الهدوء، وصامتة صمت القبور حين يستدعي الأمر الصراخ، و«حبوبة» إلى آخر حد حين يتطلب الأمر أن تكون شرسة، فهي إن تضورت من الجوع، ولم تجد حتى خبزاً يابساً تطعمه لأطفالها، لا تغضب ولا تثور أبدا على من تسبب بجوعها، بل تبدو راضية كل الرضا، قانعة كل القناعة، «مستانسة» لأبعد حد، وإن قُمعت حرياتها وديست كراماتها، واستشرى الفساد في صفوف الطبقة المتنفذة إلى أقصى درجاته، لا تسمع منها احتجاجاً على شيء أبداً، لا تسمع سوى دعوة صادقة، إلى أن يهدي الله الجميع لما يحبه ويرضاه، فقط لا غير وسلامتكم!

Ad

وإن رُمي أبناؤها في المعتقلات سنين طوالاً، ثم عُذبوا وأُعدموا ودُفنوا في مقابر جماعية، تجد أن الأكف «الطاهرة» ترتفع إلى السماء والألسنة تلهج بالدعاء، بأن يحفظ الله «الزعيم- المناضل- كامل الأوصاف» ويبقيه تاجاً فوق رؤوس الجميع، لتهتف بعدها الجماهير «السعيدة» وبكل حماس «الله يخلي الريس الله يطول عمره»! وهو أمر مغاير تماما، لما تفعله أكثر شعوب الأرض، فكل طغيان له زمن محدد ينتهي مهما طال، ولصبر الشعوب حدود، ولا يمكن أن يستمر إلى الأبد، انظروا لما فعله الجياع والبؤساء والمحرومون في أوروبا الشرقية قبل سنوات، حين واجهوا الدبابات بكل شجاعة، وبصدور عارية، ولم يكترثوا حينها للموت في سبيل الحرية والعيش الكريم، حيث أسقطوا أعتى الأنظمة الدكتاتورية، ثم قارنوها ببعض الشعوب العربية الذليلة، ممن ابتليت بحكم العسكر و«الثورجية»، التي تذوب عشقا بجلاديها، وترفع صورهم بكل مكان، حتى في «برايم» استار أكاديمي -قمة الإخلاص- رغم الاستبداد والقمع والفقر والجوع، وانعدام الحريات الذي يعيشونه، ولا أحد في الدنيا يفعل هذا أبدا أبدا!

فما سبب هذا يا ترى، أهو بلادة في الحس والشعور، أم خوف ورعب يملأ الصدور، أم تراه غباء عشعش في العقول، أم اعتياد الذلة بالعرض والطول؟

البعض يقول، إن الشعوب العربية «جبانة» و«بليدة»، فهي لم تقم بثورة حقيقية واحدة، على مدى الستين عاما الماضية على أي نظام حكم دكتاتوري، رغم أن هذه الأنظمة قد دخلت في موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية، في القسوة والظلم والجبروت، وما شهدناه من تغير كان إما بتدخل خارجي، للقوى العظمى التي ترعى مصالحها، وإما اغتيالات وانقلابات عسكرية، يقوم بها ضباط في الجيش، من دون أي مساندة شعبية فعلية، انقلاب يسمونه بعد ذلك ثورة، ويحتفلون كل عام بقيامها، وخذ حينها «أسامي ببلاش»، فثورة «الفاتح» وثورة «الغامق» وثورة «الحنطاوي»، وذهب الملك وأتى الزعيم، «فيا فرحة القلب الحزين»!

لكن التاريخ يقول غير هذا، فالشعوب العربية كما قالت الفنانة شادية «مظلومة يا ناس مظلومة، وبريئة ولكن متهومة»، فلا هي بالجبانة ولا هي بالخانعة ولا هي بالبليدة، ولكنها تعلمت شيئا مهما من تجاربها السابقة، ومن خيبات أملها المتتالية، فمن كثرة «الكلكجية» الذين حملوا لواء المعارضة، ورفعوا راية الوطنية والقومية والنضال، كفرت هذه الأمة بالإصلاح والمصلحين، وبالإنقاذ والمنقذين، فلم تعد تصدقهم أبدا أو ترتجي منهم خيرا، وقد تأكد لها -بحكم التجارب المتكررة- أنهم بمجرد وصولهم إلى سدة الحكم، «سيلحسون» كل شعاراتهم البراقة ووعودهم الجميلة، ويتحولون إلى طغاة جدد، أشد ممن سبقهم بمراحل، فقد تعلموا من أخطائهم ولن يكرروها!

ولنكن منصفين، ولنتذكر أن هذه الشعوب العربية، قد ثارت من قبل على الأتراك وأخرجتهم، ثم ثارت على المستعمرين وطردتهم، بعد أن دفعت من دماء الشهداء ثمنا لتحررها، ليحل محلهم الحكم الوطني، حيث فرح الجميع وتأملوا خيرا، لكنه كان أكثر استبدادا وفسادا من المستعمر، وانتهت مرحلة «الاستعمار» الأجنبي بما فيها من «استغلال»، لتبدأ مرحلة «الاستحمار» الوطني بكل ما فيها من «استغفال»، ثم ظهر المعارضون من كل نوع وملة، بشعاراتهم الجميلة وكلماتهم الرنانة، وتمكنوا بالانقلابات والاغتيالات من الاستيلاء على الحكم تباعا، كلهم بلا استثناء، العسكر والقوميون والتقدميون والشيوعيون والإسلاميون، لكن الأوضاع بمرور الأيام صارت أسوأ وأفظع، مع توالي الاغتيالات والانقلابات العبثية، وكل فوج يلعن سابقه ويخوّنه، والشعوب تلعنهم جميعا، السابقون منهم واللاحقون!

الشعوب العربية لا تعاني البلادة أو الجبن، بل اليأس، يأساً من الحكومات، ويأساً من المعارضة، ويأساً من الإصلاح، وأصبحت كلمات مثل الأمل في الحياة وفي المستقبل، لا تعني الكثير لها، ولذلك قل نتاجها وكثر انتحاريوها، ولا مباليها!