أوراق منسية من تاريخ الجزيرة العربية غيرترود بيل (تقارير الاستخبارات البريطانية عن أوضاع الجزيرة العربية في الفترة 1916- 1917) - ترجمة: عطية بن كريم الظفيري - الخاتون... الرحالة والسياسية والجاسوسة التي رسمت ملامح الشرق الأوسط الحلقة الأولى
هذا الكتاب الذي عرَّبناه، هو مجموعة من التقارير السرية التي أرسلتها بيل إلى مكتب الاستخبارات البريطانية الخاص بالعالم العربي في القاهرة (المكتب العربي) عن الأوضاع في الجزيرة العربية، ونشرها المكتب في نشرته السرية المسماة «أراب بوليتين» Arab Bulletin. التي تعنى بنشر المعلومات الاستخباراتية السرية عن العالم العربي.وبعد مرور 23 عاما قام سير كينان كورنواليس Kinhan Cornwallis الذي كان يرأس «المكتب العربي» في القاهرة في الفترة 1916-1920 بجمع هذه التقارير من النشرة السرية ونشرها في كتيب محدود التداول بعنوان «حرب العرب». يقول كورنواليس «إن من مهام بيل وطبيعة وظيفتها أن تكون على اتصال مع (المكتب العربي) في القاهرة لتزوده من وقت إلى آخر بتقارير عن العالم العربي، إنها تقارير رسمية لأطراف حكومية...». ويضيف «إن رسمية هذه التقارير لم تؤثر في أسلوب بيل الأدبي ورؤيتها الخاصة للأمور».
هذه التقارير تتطرق إلى بعض المسائل في تاريخ الجزيرة العربية في بداية القرن العشرين: عن الإدارة الحكومية العثمانية للبلاد العربية، وعن مشيخة المحمرة، وعن التمرد ضد سلطان مسقط ما بين 1913-1916، وعن شخصية الملك عبدالعزيز بن سعود الفذة، وعن المعارك بين القبائل العربية في الصحراء، وعن شخصية إسماعيل بيك، وعن الوضع السياسي في حائل عام 1916. عند قيامي بمهام تعريب هذه المقالات أو التقارير حاولت تحري الدقة في النقل من الإنكليزية إلى العربية بلا أي تدخل مني في النص الأصلي، مراعاة للأمانة العلمية في النقل. وأضفت تعليقات إيضاحية هامشية موجزة، كذلك أضفت داخل المتن المعرّب شروحات قصيرة وضعتها بين أقواس معقوفة [ ] لزيادة الإيضاحات. وقد حصلت من جامعة نيوكاسل University of Newcastle على صور فوتوغرافية فريدة تتعلق بالموضوعات المكتوبة من أرشيف الكاتبة أضفتها إلى النسخة العربية (والتي تخلو منها النسخة الإنكليزية) لتعميم الفائدة. إنني إذ أقدم على تعريب هذه التقارير إلى اللغة العربية، فإن ذلك لا يعني أنني متفق مع ما جاءت به الكاتبة من آراء واستنتاجات، ولكنني أقدمت على تعريب هذه التقارير لأن الكاتبة قدمت معلومات توثيقية عن أحداث مهمة مر عليها ما يقرب من تسعة عقود، وقد اطلعت فئة قليلة على هذه المعلومات... لذا وددت تعميم الفائدة لكسر حاجز اللغة. آملا بهذا العمل أن أكون قد أضفت جديدا إلى المكتبة العربية.ملكة العراق غير المتوجةالمس (الآنسة) غيرترود بيل Miss Gertrude Lowthian Bell هي الكاتبة، والشاعرة، وعالمة الآثار، والرحالة، والمُحلّلة السياسية، والجاسوسة، والدبلوماسية البريطانية الاستثنائية التي لعبت دورا سياسيا في البلاد العربية. أطلق عليها ألقاب كثيرة منها: ملكة العراق غير المتوجة، وملكة الصحراء، وابنة الصحراء، والخاتون.يقول عنها مسؤول بريطاني رسمي: «إنني أعترف بأنها تفوق أي شخص من ذكر وأنثى معرفة بالنسبة لكل القضايا العربية». ويتفق معه الروائي العربي عبد الرحمن منيف (في تقديمه لكتاب المؤلفة إليزابيث بيرغوين «جيرتروود بيل»- ترجمة نمير عباس مظفر، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2002)، بقوله: «تعتبر المس بيل شخصية فذة ودورها بالغ الأهمية، إن لم يكن حاسما، في الصيغة التي أخذتها المنطقة في أعقاب الحرب العالمية الأولى من حيث العلاقة مع بريطانيا، ومن حيث نوعية الحكم الذي قام في العراق». كانت المس بيل وتي. إي. لورانس T.E. Lawrence (لورانس العرب لاحقا) وراء تنصيب الشريف فيصل ملكا على العراق وكانت أيضا وراء الثورة العربية الكبرى. إيران... أول محطة أوسطية ولدت غيرترود بيل في واشنطن هول، مقاطعة درم في إنكلترا في 14 يوليو 1868 من عائلة ثرية مرموقة فهي حفيدة الصناعي إسحاق بيل. تتسم شخصيتها منذ طفولتها بالجسارة والجرأة لدرجة التهور. وفي عُمر 16 عاما، التحقت بجامعة أوكسفورد قسم التاريخ، إذ تخرجت خلال سنتين وكانت أول فتاة تحصل على مرتبة الشرف الأولى في التاريخ. بعد تخرجها مباشرةَ من أوكسفورد، سافرت بيل إلى إيران- في مايو 1892- لزيارة خالها السير فرانك لاسيلن السفير البريطاني في مدينة طهران. وقد وَصفتْ هذه الرحلة في كتابِها (صور فارسية) Persian Pictures. وأمضت مُعظم العقد التالي في التجوال حول العالم، وتسلق جبال الألب في سويسرا، وكانت شغوفة بطلب العلم مما دفعها الى التخصص في علم الآثار والشغف بتعلم اللغات الأجنبية مثل اللغة العربية، بالإضافة إلى اللغات الأخرى كالفارسية والتركية والفرنسية والألمانية والإيطالية.الدروز وبنو صخرفي عام 1899، سافرت بيل إلى فلسطين وسورية، وفي عام 1900 سافرتْ إلى القدس وتنكرت بزي رجل بدوي للسفر إلى جبل الدروز (جبل العرب). وعندما وَصلتْ هناك رحب بها الأمير يحيى بيك أمير الدروز، وأكرم وفادتها (وفق ما ذكرته الكاتبة جانيت والاش في كتابها «ملكة الصحراء»). وفي عام 1905 عادت بيل ثانيةً إلى البلاد العربية ودرست الشؤون العربية على نحو واسع واهتمت بدراسة الآثار المحلية وتنقلت في إقامتها ما بين الدروز وقبيلة بني صخر، وقابلت العديد مِن الزعماء والأمراء العرب وشيوخ القبائل. ونَشرتْ ملاحظاتَها في كتابِها «البادية والحاضرة» The Desert and the Sown، وفيه كتبت معلومات رصينة إلى العالم الغربي عن الصحاري العربية. في مارس عام 1907، سافرت بيل إلى تركيا لدراسة الآثار هناك.في يناير عام 1909، تَوجّهتْ إلى العراق. واكتشفت آثار الأخيضر، وعملتْ مباشرةً في الموقع مَع عالمين للآثار أحدهما كان لورانس العرب. هدايا أمراء حائل في أواخر عام 1913 وصلت بيل إلى دمشق وشرعت بالتخطيط للقيام برحلة استكشافية لصحراء الشامية، والدخول إلى «جزيرة العرب» والوصول إلى حائل- لتكون ثاني امرأة إنكليزية تزور حائل بعد السيدة النبيلة آن بلونت Anne Blunt- فاتصلت بيل بالتاجر القصيمي محمد البسام، من أهل عنيزة المقيم بدمشق، وهو ممن تثق بهم وتزوره كلما أقامت بدمشق، وتسترشد بنصائحه وإرشاداته، وتحدثت إليه عن رغبتها في القيام بهذه الرحلة. وأجابها بأن الطريق إلى حائل سالكة هذه السنة، وأشار عليها أن تصرف مبالغ كبيرة لشراء الهدايا لتقديمها إلى أمراء حائل، وطلبت منه أن يشتري لها رواحل من الإبل الأصيلة التي تتحمل مشاق رحلة طويلة تستغرق قرابة ثلاثة أشهر، وأن يختار لها المرافقين والخدم والادلاء المناسبين وقام بتنفيذ طلبها. رحلة المخاطروفي 16 ديسمبر 1913 انطلقت الرحلة من دمشق بقافلة مكونة من عشرين بعيرا محملة بالمؤن، وثلاثة جمَالين (علي وعبد الله وفلاح)، وطباخ (سليم)، ورجل كمرشد ودليل (محمد المعراوي)، ورغم التحذيرات التي تلقتها بأن السكان هناك يتشككون في الأوروبيين فإنها لم تخبر السلطات العثمانية أو البريطانية عن رحلتها؛ لأنها كانت تخشى إذا ما علمت تلك السلطات فإنها ستمنعها من هذه الرحلة، لما يكتنفها من مخاطر جمة. وقد أوقفها مسؤول عثماني في إحدى المرات وبعد جهد مضن تمكنت من إقناعه بالسماح لها بالسفر، مقابل أن تتعهد له خطيا بتحملها مسؤولية ما سيحدث لها خلال الرحلة وإعفاء السلطات العثمانية من ذلك. وبعد أيام هاجم قافلتها فرسان من الدروز وسلبوا أسلحتها وذخيرتها عنوة، وانتظرت أسبوعا حتى أعاد أحد شيوخهم ما سلب بعد وساطة أحد مرافقيها. أجواء ألف ليلةوأثناء رحلتها في الصحراء تحاشت أن ترد موارد البادية المعروفة، خشية أن تتعرض لغزو وسلب القبائل، واعتمدت على غدران مياه الأمطار (الخباري). وقد شدتها الطبيعة الغريبة للمنطقة والجمال الأخاذ لضوء القمر في صحراء النفود. وقد كتبت في يومياتها ورسائلها انها كثيراً ما اعتقدت أنها دخلت إلى كوكب آخر وأنها تعيش أجواء ألف ليلة وليلة الحقيقية... «في الصحراء يلتف حولك حجاب منيع من السكون والعزلة، وليس هنالك من حقيقة تضاهي تلك الساعات التي يقضيها المرء في امتطاء ظهور الإبل، حيث ترتجف أوصاله في الصباح من البرودة ويشعر بالنعاس في الظهيرة ثم يدب نشاط صاخب في بناء الخيام [عند المساء]، وبعدها نتناول العشاء ونتجاذب أطراف الحديث، حول موقد نار قهوة محمد (الدليل محمد المعراوي)، ثم نخلد إلى نوم عميق لا يمكن لأي متمدن [أوروبي] أن يستمتع بمثله»، حسبما ورد في كتاب «ملكة الصحراء» لجانيت والاش.وعند مرورها بمنطقة قبيلة الحويطات حلت ضيفة عند الشيخ عوده أبو تايه زعيم الحويطات، واستقبلها أخوه محمد استقبالا حارا وأمضت ليلتها مع نسائه (الحريم)، وكان الشيخ عوده ذاهب في مهمة غزو.عند مرورها بأراضي قبيلة أخرى اعترض طريقها شيخ تلك القبيلة، ولم يسمح لها بالمرور -بحجة أنها مسيحية- حتى أعطته مسدسا ومنظارا كهدية أو (بقشيش)، واقترح سرا على رجال قافلتها قتلها وتقاسم حاجاتها.حبيسة دار الضيافةوبينما كانت القافلة -في فبراير 1914- على مشارف جبل شمر جاءها رسول الأمير ابن رشيد يخبرها بانشغال الأمير بغزواته خارج عاصمته حائل، وان خاله (إبراهيم السبهان) يقوم بمهامه بالنيابة عنه، ومُنعتْ من دخول حائل، وسُمح لها بالبقاء فقط في دار الضيافة خارج أسوار المدينة. وتصف بيل ذلك بقولها الذي جاء في كتاب من تأليف اتش في إف وينستون بعنوان «غيرترود بيل»:استقبلني ثلاثة من العبيد، ودخلت القصر الفخم، في وسطه ساحة كبيرة. ودخلت صالة كبيرة تسمى (الروشن)، أو صالة الاستقبال، لها سقف قائم على أعمدة مبنية بشكل هندسي جيد ومفروشة بسجاد. كانت هناك امرأتان: واحدة عجوز أرملة (اسمها لولوه)، وهي التي تقوم بالاعتناء بالمكان. والأخرى شركسية (اسمها تركية)... وبعد تناول الغداء زارني إبراهيم [السبهان]، وكان العبيد يسيرون أمامه وخلفه، وهو ذكي ومثقف مقارنة بالبدو الآخرين، يرتدي ملابس حريرية من الهند ويمتشق سيفا من الذهب.وعند ذهابه أسرّ إلى محمد المعراوي (مرافقها) قائلا بما أن الأمير خارج المدينة وهناك حديث يدور بين الناس يستغرب مجيء هذه الأجنبية، فإنه لا يسمح لها بمغادرة دار الضيافة إلا بإذن.(يتبع)