قبل أسبوعين أعلنت مجموعة «تريبيون» الصحفية الأميركية، التي تملك صحفاً يومية عدة كبيرة مثل «لوس أنجلوس تايمز» و«شيكاغو تريبيون»، أنها وضعت نفسها «طوعاً» تحت حماية قانون الإفلاس، بعدما تعرضت خلال الأشهر الأخيرة لمصاعب مالية خانقة، خصوصاً بعد تراجع عائداتها الإعلانية بنسبة 19 في المئة.
وقد حدث هذا في أعقاب إعلان صحيفة «نيويورك تايمز» أنها ستقترض مبلغ 225 مليون دولار عبر رهن مقرها الجديد في مانهاتن، من أجل مواجهة أزمة السيولة التي تسبب فيها تباطؤ سوق الائتمان وانخفاض أرباحها.ومع توالي الأخبار غير السارة القادمة من قطاع الإعلام التقليدي في الولايات المتحدة وأوروبا، بات من المستساغ أن نسمع عن عثرة كبيرة جديدة لإحدى كبريات الوسائل المهمة في صناعة الإعلام العالمية، بل إن الأمر تعدى ذلك إلى التشكيك في مستقبل الصناعة ذاتها.ففي منتصف الشهر الجاري، اعتبر رئيس مجموعة «واشنطن بوست كومباني» دونالد غراهام أن «النموذج الاقتصادي للصحافة المكتوبة لم يعد مجدياً»، بعدما تحدث عن مستقبل الأداء الاقتصادي لاثنين من إصدارات مجموعته الكبرى، متوقعاً أن «واشنطن بوست»، و«نيوزويك» ستتكبدان خسائر بنهاية العام الجاري.والواقع أن التعثر الذي ضرب اقتصادات القطاع طال العاملين به أيضاً، فقد بلغ عدد الموظفين الذين سرحتهم الصحافة الأميركية العام 2008 نحو 15 ألفاً و400 شخص، كما أنه لم يتوقف عند تراجع عائدات الإعلان فقط، إذ هبطت بنسبة 18.1 في المائة في النصف الأخير من السنة مقارنة بالفترة نفسها من السنة الماضية، بل امتد كذلك إلى أرقام التوزيع، لتنخفض مبيعات الصحف الأميركية الـ507 بنسبة 4.6 في المئة خلال الربعين الثاني والثالث من العام الجاري، مسجلة 38 مليون نسخة، مقابل 40 مليوناً في الفترة نفسها من العام الماضي 2007.وإلى جانب صحف أميركية وأوروبية كثيرة أفلست أو أوشكت على الإفلاس، هناك بعض الصحف التي أوقفت طبعاتها الورقية مثل «كريستيان ساينس مونيتور»، وصحف أخرى في طريقها إلى ذلك، وهو الأمر الذي عزز توقعات بعض كتابنا وباحثينا العرب بأننا «على الدرب ذاته ماضون»، معتبرين أننا «سنرى صحفاً من صحفنا المحلية متجهة نحو الإفلاس».لكن الرؤية الشاملة لواقع الصناعة الإعلامية العربية، خصوصاً في منطقة الخليج العربي، لا تخلص إلى النتيجة ذاتها، رغم قسوة الأزمة المالية العالمية وتداعياتها على الاقتصادات العربية.فإذا ضربنا مثلاً بالصحافة المطبوعة في السعودية لوجدنا أنها لم تتوقف عن إعلان تسجيلها أرباحاً تاريخية منذ مطلع العقد الراهن. وعلى سبيل المثال، فقد حققت مؤسسة اليمامة الصحافية (تصدر عنها صحيفة «الرياض» ومجلة «اليمامة») أرباحاً بلغت 130 مليون ريال سعودي (الدولار الأميركي 3.75 ريالات)، في العام 2007، فيما حققت مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر (تصدر عنها صحيفة «الجزيرة») أرباحاً بلغت 52 في المئة من إجمالي رأس مالها في العام نفسه. وسجلت مؤسسة عكاظ (تصدر يومية «عكاظ» وثلاث مطبوعات أخرى) أرباحاً قياسية بلغت 147 مليون ريال في العام 2006.وفي مصر، استطاعت صحيفة «المصري اليوم» الخاصة أن تسجل أرقام توزيع عالية، لتراوح بين المرتبتين الثانية والثالثة من جهة التوزيع بعد سنوات قليلة من صدورها، كما باعت حقوقها الإعلانية بمبلغ 50 مليون جنيه مصري (الدولار 5.52 جنيهات) لثلاث سنوات، مما قادها إلى تحقيق أرباح جيدة وإلى توسعات ضخمة في بنيتها المؤسسية.وفي الإمارات العربية المتحدة مازالت الصحف الثلاث «الاتحاد» و«البيان» و«الخليج» تحقق أرباحاً سنوية واسعة تتزايد باطراد، والأمر ذاته حدث في الكويت التي استطاعت صحف جديدة أن تصدر في سوقها التي ظلت مغلقة لعقود، وأن تحقق التعادل قبل أن تذهب إلى الربح.سيكون من الخطأ أن يتجاهل أقطاب الصناعة الإعلامية التطورات الحادة الحاصلة في العالم، كما يجب أن يبدأ هؤلاء، كما نصح الزميل «جاسم القامس» في مقاله بـ«الجريدة»، بعنوان «عالم متغير... وإعلام جامد»، في 16 ديسمبر الجاري، في الاستعداد لعصر تسود فيه وسائل الإعلام الإلكترونية على حساب تلك التقليدية، لكنه من الخطأ أيضاً اعتبار أن التطورات العالمية ستستنسخ محلياً وعربياً فور حصولها، إذ إن الفرق شاسع بين العالمين والثقافتين والصناعتين.في نهاية العام 2004، أخبرني رئيس تحرير صحيفة خليجية مهمة أن «الشهر الذي شهد وفاة حاكم خليجي استثنائي رفد الجريدة بعائد إعلاني يكفي نفقات تشغيل لمدة سنة»، وأن صحيفته «طبعت في يوم واحد 56 صفحة إعلان عزاء مدفوع بأعلى قيمة ممكنة». بالطبع فإن تلك الحالة لا يمكن أن تنطبق على صحيفة أميركية وأوروبية، وهو كما يبدو أمر استثنائي لا يعول عليه، لكن شيئاً من هذا يحدث باستمرار في عالمنا العربي؛ إذ تُمنح الإعلانات للصحف في أحيان عديدة على أسس بعيدة عن الرواج والمصداقية، بل ترتبط باعتبارات سياسية وتقليدية. ولذلك فإن «تقرير نظرة على الإعلام العربي»، يشير إلى أن المعدلات الإجمالية المتوقعة للنمو السنوي في عائدات الإعلان في ست دول عربية رائدة (منها الكويت)، في الأعوام 2006-2011، تراوح ما بين 7.4% إلى 13.8%، وأن الصحافة المطبوعة ستحظى بنصيب الأسد من هذه العائدات.ويؤكد التقرير أن سوق توزيع الصحف يشهد نمواً قويا بالمقارنة مع وسائل الإعلام الأخرى، ليس فقط بسبب عدم نضوج أسواقنا العربية مقارنة بالأسواق الغربية المتقدمة، التي أنعش تطورها التقني الإقبال على وسائل الإعلام الإلكترونية فيها، ولكن أيضاً لأن التدفقات المالية الكبيرة، وارتفاع معدلات محو الأمية، إضافة إلى تحسن المنتج الصحافي نفسه، كلها عوامل ستؤدي إلى توسيع فرص التوزيع والإعلان في الإعلام المطبوع.وكما كانت حظوظنا قليلة في نبوغ صناعة الإعلام التقليدي العالمية، فإن حظوظنا ستكون قليلة أيضاً في أفولها.* كاتب مصري
مقالات
تقليديتنا تحمي إعلامنا التقليدي
22-12-2008