تناولنا في المقال السابق تصور كل من محمد بن عبدالوهاب وجمال الدين الأفغاني لقضية الإصلاح، وهو التصور الذي انعكس في آراء محمد عبده تلميذ الأفغاني بصيغة أو بأخرى، فقد بلور عبده، بشكل أكثر جلاء، رؤيته المنحازة إلى التدرج في الإصلاح في طلبه من الأفغاني، وهما في باريس عام 1883، أن يذهبا سويا إلى مكان غير خاضع لسلطان دولة تعرقل مشروعهما الإصلاحي، ليؤسسا مدرسة للزعماء، يختارا تلاميذها من الأقطار الإسلامية، ويقوما بتربيتهم لمدة معينة، يصبحوا بعدها مؤهلين لقيادة الإصلاح في بلدانهم. لكن الأفغاني، الذي كان متعجلا، رفض هذه الفكرة «الطوباوية»، التي أعيد إنتاجها، بشكل مختلف، ولمقصد مغاير، داخل الحركة الإسلامية، وهي تتأسس على تأويل ذاتي لحدث الهجرة النبوية الشريفة، ينزعه من سياقه التاريخي والاجتماعي.

Ad

وما بين الأفغاني وعبده من اختلاف في تقدير زمنية الإصلاح يعود في نظر العقاد إلى «اختلاف الفطرة والاستعداد بين هذين الإمامين العظيمين، فأحدهما خلق للتعليم والتهذيب، والآخر خلق للدعوة والحركة في مجال العمل السياسي والثورة الأممية». وربما وزعت الفطرة كلا منهما على مسلك مغاير للآخر، فالأفغاني يعول على الجماعة، وينادي بالثورة، ويمارس السياسة من أوسع أبوابها، ويقطع بعدم التعاون مع المستعمر، أما عبده فيعول على الفرد، ويسعى إلى تأجيج العاطفة الدينية، ويتوخى التربية سبيلا إلى بلوغ الهدف ويكره على التوازي السياسة، فيستعيذ بالله من «ساس ويسوس»، ولا يرفض التعاون مع المستعمر إن كانت المصلحة تقتضي ذلك.

ويرى المفكر الجزائري مالك بن نبي أن الوضع الأفضل يقتضي المزاوجة بين أفكار الأفغاني وعبده، ويقول: «لو استطاعت المدرسة الإصلاحية أن تقوم بتركيب أفكارها وتجميع عناصرها بحيث توحد بين أفكار الأصول التي ذهب إليها الشيخ محمد عبده، والآراء السياسية والاجتماعية التي نادى بها السيد جمال الدين الأفغاني، لكان هذا سيؤدي حتما إلى طريق أفضل من مجرد مبادئ إصلاح العقيدة».

وقد تحقق هذا مع عبدالرحمن الكواكبي الذي اتبع في آن عدة أساليب في الإصلاح تراوحت بين الميل إلى القوة والثورة والاقتناع بالهدوء والانتظار وبينهما التدرج في الإصلاح عبر تجهيز الرأي العام لقبول التغيير والإيمان بضرورته.

وآمن الكواكبي أن الإصلاح الديني هو الأصل والمنشأ لأي عملية إصلاح، سياسية أو اجتماعية، لأن الاستبداد يبدأ في نظره دينيا ثم يمتد إلى المجالات الأخرى، وأن الدين إن صلح تصلح السياسة وغيرها، ولا يعني هذا أن الكواكبي قد نادى بإرجاء الإصلاح السياسي حتى يتم إصلاح الدين، بل دعا إلى أن يتم الاثنان في وقت واحد.

وزاوج الكواكبي بين الفكر والممارسة، فأنتج العديد من الكتب في مطلعها «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» وكون جمعية «أم القرى» ووضع خطة ثورية لقلب نظام الحكم العثماني المطلق في بلاد العرب، وإقامة حكم قومي على أساس الشورى، يقف على أكتاف «جمعية حكماء» تحرض الجماهير على المقاومة.

وسار عبدالحميد بن باديس في الجزائر على الدرب نفسه، حيث لعب دورا سياسيا مهما في سبيل استقلال وطنه، جنبا إلى جنب مع دوره التربوي، وسلك الطريقين بغية الحفاظ على هوية بلاده، التي كانت فرنسا تسعى إلى مسخها وإزالة أصولها، ودمجها في الجمهورية الفرنسية.

فابن باديس ركز طيلة حياته على محاربة البدع، وتجديد الدين بربط الفروع بالأصول، والتربية والتعليم، وإعداد «القادة القرآنيين»، وكان يتفق مع محمد عبده في ضرورة أن ينطلق الإصلاح من التغيير النفسي، إذ يقول: «إن الذي توجه إليه الاهتمام الأعظم في تربية أنفسنا وتربية غيرنا هو تصحيح العقائد وتقويم الأخلاق، فالباطن أساس الظاهر». وكان في الوقت نفسه يتفق مع الأفغاني في ثوريته، بعد أن ضاق ذرعا بالاستعمار، وانتابه خوف شديد على هوية الجزائر، وهاهو يقسم: «والله لو وجدت عشرة من عقلاء الأمة الجزائرية يوافقونني على إعلان الثورة لأعلنتها».

وفي المقال المقبل سنرى كيف تعامل أتباع الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، أو التي رفعت من الإسلام شعارا سياسيا لها، مع ما أنتجه رواد النهضة العربية الحديثة حول قضية الإصلاح.

* كاتب وباحث مصري