في مكان من هذا العالم اسمه سورية، يوجد إنسان يمتلك خمس حواس وأعضاء بشرية وعقلا وذاكرة والكثير من المشاعر... في الأدبيات الرسمية اسمه المواطن السوري.

Ad

هو إن مشى أو جلس، يحتل حيزا ملحوظا من المكان، يمكن تمييزه عن قرب أو عن بعد، ويمكن التقاط صورة له، مبتسما أو عابسا، ويمكن مصافحته أو لكمه! هو يدخل رقما في التعداد السكاني، واسما في السجل المدني، وجيبا لدى دائرة الضرائب، ورمزا للنخوة في مظاهرات ضد العدوان على جيرانه، وخطراً على الأمن القومي والوحدة الوطنية في جهره بآرائه، وباختصار، هو ليس كائنا شفافا أو غير مرئي.

مع ذلك كله، يبقى هذا الإنسان غير قابل للمشاهدة من قبل المسؤولين في بلاده في غير المناسبات المذكورة أعلاه، وإن كان من المستحيل علميا إيجاد تفسير لهذه الظاهرة الفريدة، فإن تفسيرها ينحصر في الماورائيات العربية، حيث لعنة التخفي القسري تحل على شعوب المنطقة منذ دهور، ملايين شفافة غير مرئية من حكوماتها إلا حين ترتفع بنظرها عن الأرض ولو خلسة.

حالة انعدام الرؤية تلك، هي التي ندد بها أكثر من مسؤول سوري أخيرا، مستنكرين الصمت الأوروبي تجاه العدوان على غزة، محذرين من التدخل بعد الآن في الشأن الداخلي السوري فيما يتعلق بأوضاع حقوق الإنسان والديمقراطية! كانت مناسبة على أي حال للاعتراف غير المقصود بالعمى المحلي أسوة بنظيره الأوروبي، خاصة أن هذه التصريحات تأتي بعد سبعة أشهر من وقوع أحداث صيدنايا المشؤومة.

ليس غريبا أن يقع تمرد ما في سجن ما، الغريب أن يتم التعامل مع ما جرى كأنه لم يكن.

مضت الأشهر السبعة بصمت ثقيل، لم تخرقه إلا البيانات الحقوقية المطالبة بكشف الحقيقة، والإشاعات التي انتعشت وازدهرت على نحو غير مسبوق. المواقع الإلكترونية تزخم بالمعلومات المتناقضة التي لا يمكن بحال التوفيق فيما بينها. نبأ عن هدوء يسود السجن يقابله آخر عن تجدد الاضطرابات. خبر عن إصابات وقتلى يقابله آخر يتحدث أن المعتقلين يعيشون في رفاهية ورخاء! الزيارات ممنوعة والسؤال لا يلقى جوابا.

سوق الفساد ينتعش أيضا، لأن العائلات التي يتآكلها القلق، مستعدة لدفع كل ما تملك من أجل الحصول على معلومة قد لا تكون صحيحة.

يقدر أن يكون في السجن نحو ألفي معتقل وسطيا، ما يعني أن ألفي عائلة تمتلك حق الاطمئنان على أبنائها، وإذا اعتبرنا متوسط عدد الأفراد في العائلة أربعة، يكون لدينا ثمانية آلاف مواطن، أصحاب شفافية عالية، وغير مرئيين!

بالتأكيد القضية إنسانية بالدرجة الأولى؛ عذابات الأمهات والآباء بانتظار معرفة مصير أبنائهم لا تحتمل. لكنها أيضا قضية «رؤية» فريدة من نوعها. إذا كانت الأجهزة الأمنية بحكم «الاختصاص» غير معنية «برؤية» هؤلاء وإجابة تساؤلاتهم وطمأنة قلقهم، فما قصة وزارة العدل ووزارة الداخلية والقضاء والإعلام وغيرها من الجهات الرسمية التي قصدتها العائلات بلا جدوى.

مع بداية الأحداث، اعتصم العشرات من الأهالي في غير مدينة سورية للمطالبة بمعرفة مصير أبنائهم. المشاركة كانت محدودة، والتحركات سرعان ما خمدت تحت وطأة القمع والتهديد. منذ ذلك الوقت، عمدت كل عائلة إلى سلوك دربها الخاص في سبيل الحصول على معلومة بغير نجاح في أغلب الأحيان.

تبدو العائلات في حيرتها وكأنها «مقطوعة من شجرة»! لا سلطة تعترف بوجودها، لا جهة مسؤولة تلجأ إليها، ولا حكومة تدري أصلا بمصائبها، وكأنها غريبة في وطنها، أو أنها تعيش في منفى، حيث لا يوجد حيث سفارة لبلدها أو سفير!

لا هي بقادرة على أن تنتظم ككتلة متماسكة ذات مطالب محددة ومشروعة ولو عبر توقيع رسالة تتضمن تلك المطالب؛ لا مجتمع مدنيا يأخذ بيدها ولا إرث الخوف الذي تلبسها ومازال يضغطها بشدة يسمح لها بذلك.

تلك العائلات وسواها، لا تكترث قليلا أو كثيرا إن أثار الاتحاد الأوروبي قضايا حقوق الإنسان مع حكومتها. جل ما تسعى إليه أن تكون مرئية من تلك الحكومة ومن سلطات بلادها، كبشر لهم حقوق طبيعية وكمواطنين لهم حقوق كما تؤخذ منهم واجباتهم حتى آخر قطرة، وهذا ليس بالشيء الصعب؛ يحتاج فقط إلى تعويذة وبخور وبضعة تمتمات ترفع السحر ويعود الشعب مرئيا وبالألوان أيضا!

* كاتب سوري