تذوّق الابن يتكلم عن أبيه
سألت هاني حداد ماذا يعني له أن يكون نجل وديع حداد؟ فأجاب:
ـ لا يمكنني عزل هذا الموضوع عن الجانب الشخصي والحميم فيه على رغم معرفتي بأن الجانب العام كان الأساس في حياة وديع حداد وتجربته. هناك علاقة مركبة وخاصة جداً في الوقت نفسه، لا سيما أن حديثنا هذا يأتي بعد فترة غياب طويلة. لا أعرف إذا كان استخدام تعبير إرث وديع حداد دقيقاً، لكن هناك بلا شك إرث معنوي هائل خلفه كوالد وكشخصية عامة. لم يكن يرغب في إغفال الجانب الخاص في حياته لكنه كان حريصاً على ألا يتغلب على الجانب العام الذي أعطاه حياته بكليتها. كان يؤكد دائماً على أهمية الجانب العام انطلاقاً من قناعته الراسخة بالحالة النضالية التي كان يعيشها. كانت العلاقة العائلية تعني له الكثير، والأمر نفسه بالنسبة الى الأبوة، غير أن الأساس في حياته وحياتنا كان القضية فهي كانت الهم الأول. هناك تعبير أخلاقي جداً كان يستخدمه كتعبير عملي وهو جزء أساسي من القدرة على الأداء في المحيط النضالي الذي كان يتصوّر أننا يجب أن نعيش فيه، ينطلق من أخلاقية نكران الذات. لعل هذه المسألة بالذات من أول المفاتيح لفهم شخصيته. كان يعيش حالة نكران الذات هذه ويسعى الى إشاعتها في نفوس من هم حوله، بالممارسة لا بالكلام. أعتقد بأنه نجح تماماً. لقد تبين أن من عملوا معه تشربوا هذه الروحية التي ربما أصيبت بشيء من الضمور بعد غياب النموذج الذي كانت تشع منه. وعما يشعر به حين يقرأ مقالاً أو كتاباً يصف والده بأنه كان «عراب الإرهابيين» قال: ـ بالنسبة الى الإرهاب، واضح أنه كان موجوداً في كل التجارب التي يوجد فيها طرف قوي مسيطر على طرف أضعف. في مثل هذه الحال يضطر الأضعف الى استخدام أساليب غير تقليدية في الرد لأن الآخر يسحقه ولا يترك له أي خيار. في أدبيات الثورة الروسية تحدث لينين عن الإرهاب واستخدامه ولماذا وأين. خلال الحرب العالمية الثانية ألم تستخدم المقاومة الأوروبية ضد النازيين أساليب يمكن نعتها بالإرهاب. وضعوا عبوات في محطات القطار والمطاعم التي يرتادها الألمان. الحركة الصهيونية كان الإرهاب من بديهيات وجودها. كان الإرهاب الأكبر التحالف غير المعلن بينهم وبين الحركة النازية. وُضعت كتب حول هذا الموضوع لا أعرف لماذا تم التعتيم عليها. تهمة الإرهاب بالنسبة إلينا صناعة إعلامية. هل تجزم أن الدكتور وديع لم يترك شيئاً لعائلته؟ ـ ترك لنا ذاكره وعبره وتجربته، وهي عندي أثمن من أي شيء ولا تقدّر بمال. إننا نعيش في ضوء تجربته ودروسها. حين ألتقي بمن عايشوه أشعر أنه كان من الرجال الذين يصنعون الآمال ويعملون لتحقيقها. لا أعتقد أن التجربة الفلسطينية في العقود الماضية كانت فاشلة. ما يجري اليوم في الأراضي المحتلة يشير الى أنها أصابت قدراً من النجاح. علينا أن نلتفت الى حجم التحدي المقابل. التحدي الصهيوني ليس بسيطاً. هل تعتقد بأن والدك ظُلم؟ ـ كل حياته كانت بمثابة رد فعل على ظلم. تقصد هل ظُلم من جانب «الجبهة الشعبية» بفعل بعض التجاذبات أو الاتهامات؟ كل هذه الأمور لم تكن تعني شيئاً لوالدي. والدليل أنه حتى وفاته لم يكن يرى نفسه خارج الجبهة. هل كانت لدى والدك مشاعر مرارة؟ كانت لدى والدي مرارة من تجربة الأردن. الأردن يعني له الكثير. أمضى ثلاث سنوات في السجن وكانت له تجربة إنسانية غنية مع السجناء والسكان المحيطين بالسجن، وقد حفر مع رفاقه نفقاً للهروب لكن الحراس اكتشفوه. مصدر المرارة التجاوزات التي حصلت بحق السكان. كان يقول إن جزءاً من العدو الذي واجهنا في الأردن هو نحن. وحتى بالنسبة الى لبنان كان يعتقد أن نجاح حزب الكتائب في الاستقطاب ورفع درجة الشراسة يعود في جزء منه الى ممارسات المقاومة. رأى والدي أن تجربة المقاومة في لبنان تضمنت أخطاء بعضها قاتل. كان معارضاً لفكرة التجييش أي تحويل المقاومة الى ما يشبه الجيوش النظامية. ـ هل كانت لديه مرارة من عمليات خطط لها ولم تنجح؟ ـ سمعته مرة يقول إنه بمجرد أن نظهر لهم (الأعداء) أننا لا نزال نمتلك القدرة على الوصول وتخطي الحواجز الأمنية نعتبر أننا حققنا نجاحاً. وطبعاً النجاح بدرجات. هل ترك وصية؟ لا. لم أسمع بشيء من هذا النوع. هل تلقيت مثلاً ذات يوم رسالة من كارلوس؟ لا. كان عمل والدي مفصولاً عن عائلته. هل كان وديع حداد يكره اليهود؟ لا. لم يكن يكره اليهود كيهود أي بسبب انتمائهم الديني. لكن عليك ان تأخذ في الحساب أن ما يسمى النضال التحرري الفلسطيني والعربي مر في مراحل عدة في وعيه لما يسمى «التحدي الصهيوني». في إحدى الفترات كان الصهيوني مرادفاً لليهودي. في فلسطين كان تشكَّل الوعي بالخطر الصهيوني بدائياً لكن ليس لدى الكل. كنت تجد في تلاوين الحركة الوطنية الفلسطينية قبل النكبة من كان يسمي الغزو الصهيوني بالصهاينة تمييزاً لهم عن اليهود. صفد كانت مجتمعاً متعدداً وكذلك حيفا. كان هناك يهود يحملون جوازاً بريطانياً مكتوب عليه: حكومة فلسطين. لم تكن المشكلة مع هؤلاء. المشكلة اتسعت حين أرغمت الصهيونية هؤلاء على التوحد معها أو اجتذبتهم إليها. الحركة الصهيونية تزعم أنها حركة قومية ولهذا تعتمد كثيراً على ظاهرة التجييش وترى أن معسكرها يشمل جميع اليهود. كان والدي يستخدم أحياناً كلمة يهود للإشارة الى الصهيونية لكنه لم يكن عنصرياً ولا معادياً لليهود كيهود. عمل والدك في الظل خصوصاً بعد قيام «الجبهة الشعبية» وتردد أنه لم يحب منذ البداية التنظير والجدالات الفكرية والسياسية الطويلة، فما صحة ذلك؟ ـ كثيراً ما قيل عن والدي أنه يغلب الجانب العملاني والممارساتي على الجانب الفكري والاعلامي. أحب أن أوضح أنه كان يؤكد دائماً على الوعي السياسي والمنطلقات الفكرية التي تحكم التطبيق. كان يستخدم تعبير الجغرافيا السياسية التي على المناضل أن يعرفها ليصوّب الى الهدف. كان يدرك أهمية الإعلام. مشروع «الهدف» كمجلة مركزية ناطقة باسم «الجبهة الشعبية» وقبلها مجلة «الحرية» كناطقة باسم حركة القوميين العرب كان له دور كبير في قيامهما لكونه عمل مسؤولاً مالياً في الحركة والجبهة. تعرف أن علاقة خاصة قامت بينه وبين الشهيد غسان كنفاني. لا يمكن أن أنسى يوم استشهد غسان كنفاني. كنا في منزل في الجبل. ظهرت كل عدوانية والدي. اعتبر أنه أصيب في الصميم. رد فعله الأول كان القول: «لشو عايشين». كان غسان بالنسبة إليه قيمة هائلة وقدرة لا يمكن تعويضها. فقد كان إعلامياً متميزاً وكان مبدعاً. وفي اعتقادي أننا نشكو من قلة المبدعين. والدي كان لديه الشعور نفسه، لهذا كان يلتقط من يلمع في دورته ويتعهده ويهتم به. كان والدي يحب العلم. كان يقول إنه لو لم يكن طبيباً لكان عالماً في الطبيعيات. كان مهتماً بسيكولوجية الحيوان ونفسيته ويتابع ما يصدر في هذا الموضوع. أعود الى غسان كنفاني. كان والدي يعتقد أن غسان قادر على المساهمة في إيجاد إعلام بديل من الإعلام السائد المعادي للمشروع الذي كان والدي جزءاً منه. لهذا ظهرت «الهدف». من هي الشخصيات التي أثرت في وديع حداد؟ ـ هناك لائحة لا نهاية لها. في المقدمة أضع الدكتور جورج حبش الذي كان قوة روحية ونضالية بما يجعل منه نموذجاً. إنها حالة الالتزام من دون مساومة أو حسابات. من كان والدك يحب من الشعراء والكتاب؟ ـ كان قارئاً نهماً. وبفعل تربيته كان يحب الشعر العربي. في الشعر الإنكليزي كان يحب اللورد بايرون كثيراً ويحفظ له الكثير من نتاجه. ثم في الدرجة الثانية شكسبير. المرة الأولى التي سمعت فيها شيئاً من نصوص شكسبير كانت حين سمعت والدي يردده ويلقيه. كان والدي يحب قصائد المتنبي كثيراً. كذلك أحب بشكل خاص أبو القاسم الشابي وكان يردد قصيدته التي يقول فيها: سأعيش رغم الداء والأعداء كالنسر فوق القمة الشماء كان يحب قصائد أحمد شوقي وابراهيم طوقان. كان يرى أن بيتاً من الشعر قادر أحياناً على تصوير حالة معينة أو اختصار وضع. كان الشعر يعنيه أكثر من الشاعر. كان يحب عنترة والفروسية الحقيقية لديه لا الفروسية الكاريكاتورية. كان يحب أيضاً أبا فراس الحمداني. كان يقرأ تشارلز ديكنز وخصوصاً «قصة مدينتين» وما فيها من التضحية بالنفس والإيثار، ومارك توين. كان يشجعني على القراءة ولا يلزمني بشيء محدد لاعتقاده بأن على المرء أن يقرأ كثيراً ثم يختار بعد تكوين شخصيته. هل حزن لأنه أرسل أناساً وقتلوا خلال العمليات؟ ـ نعم، في بعض الحالات رأيت الدموع في عينيه.