يمارس الخداع على نطاق واسع أثناء التفاوض، الذي ينطلق من أن الحيلة هي تكتيك يرمي إلى خداع الخصم حتى يستسلم معتمدا على ثقته في أن الطرف الآخر يتصرف بشرف، ويقول الصدق. وإحدى هذه الحيل هو التحكم بالمعلومات، وإعطاء الخصم بيانات زائفة مضللة. وهناك حيلة أخرى تتمثل في إيهام الطرف الآخر بأن المفاوض الذي جلس معه على الطاولة هو صاحب القرار، أو لديه تفويض نهائي باتخاذ قرارات حاسمة، ثم مفاجأته في الوقت المناسب وعند النقطة المناسبة بضرورة الرجوع إلى مستوى أعلى.

Ad

وهناك حيلة ثالثة تنطوي على تقديم مطالب إضافية في اللحظة الأخيرة، بعد أن يكون الطرف الآخر قد اعتقد أنه قد تم الانتهاء من تسوية كل النقاط الخلافية. ويتم كل هذا في إطار المقولات العامة والأساسية التي تحكم عملية التفاوض ومنها «تحقيق الممكن» و«تجنب السقوط في الحب النظري للكمال» و«رفع شعار اكسب اكسب» أو على الأقل «المحصلة ليست صفرا».

وتوجد تكتيكات محددة يقوم بها المفاوض مستخدما الحيلة على نطاق واسع، ذكرها كل من ويليام أوري في كتابه فن «التفاوض» وحسن وجيه في كتابه «مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والسياسي، ويمكن تبيانها فيما يلي:

1- لا تنفعل بل اذهب إلى الشرفة: فالإنسان حين يواجه شخصا صعب المراس أو موقفا عسيرا فسيغضب ويتصرف بانفعال، ومن ثم يقع في أخطاء جسيمة. وأول ما يقوم به المفاوض ليس هو السيطرة على سلوك الآخرين، إنما السيطرة على سلوكه هو، والتحكم بردود أفعاله، وطلب بعض الوقت للتفكير، وأثناء ذلك يركز المفاوض على ما يريد، ويعود إلى الطاولة.

2- لا تجادل، بل اخطُ إلى جانبهم: وتتطلب هذه الحيلة أن يصغي المفاوض جيدا إلى ما يقوله الطرف الآخر، ويمكنه أن يلخص أقواله ويطلب منه التصحيح، ثم يعترف بصحة وجهة النظر هذا الطرف، ويقدر مشاعره، ثم يعتذر له إن استوجب الأمر، دون أن يفقد الثقة بنفسه، ويوافقه بقدر المستطاع دون أن يقدم تنازلات، ثم يجمع كل الإجابات التي تقول «نعم» ويبدي تناغما مع اتجاهات الطرف الآخر، معترفا بسلطته وكفاءته، ويبني علاقة معه، وفي الوقت المناسب يفاجئه بتغيير رأيه من دون استفزازه.

3- لا ترفض، بل أعد الصياغة: وهنا يطرح المفاوض أسئلة تساعد على حل المشكلة من قبيل ماذا؟ وماذا لو؟ ثم يطلب النصيحة من الطرف الآخر، ويسأله: لماذا تؤمن بعدالة موقفك؟ ثم يطرح أسئلة مفتوحة، ويجرب قوة الصمت، ويعيد صياغة التكتيكات، ويلتف حول موقف الطرف الآخر المتحجر، بتجاهل هذا الموقف وإعادة تفسيره على أنه مجرد تطلع. ويمكن للمفاوض أن يصدق الموقف المتحجر لخصمه، ثم يبدأ بتحويل اتجاه هجومه أو يظهر للطرف الآخر، وكأن هذا الهجوم موجه إلى المشكلة ذاتها، وليس إلى شخص المفاوض، ثم يبدأ هجوما مضادا بطريقة ودية، ويتحدث بضمير «نحن» وليس «أنا وأنت»، ويكشف بعض حيله حتى يطمئنه، ويستغل حيل الخصم لمصلحته، ثم يتفاوض بشأن قواعد اللعبة، ويشير إلى الموضوع محل الجدل، ويتفاوض بشأن المفاوضات.

4- لا تضغط، بل ابن لهم جسرا من ذهب: ويُبنى هذا الإجراء على دراسة المعوقات التي تحول دون إبرام الاتفاق أو تسوية الخلاف، ومنها أن تكون الأفكار المطروحة على الطاولة ليست نابعة من أذهان المفاوضين، أو تكون هناك مصالح تم تجاهلها، أو يوجد تعجل أو تلهف على إنجاح التفاوض بأي ثمن مما يجعل الطرف الثاني يتلكأ ويتثاقل، أو حتى يكون هذا الطرف متخوفا من الإحراج أمام الآخرين. وللتغلب على هذه المعوقات يمكن للمتفاوض أن يبني علاقة متينة مع الطرف الآخر، بإشراكه وسؤاله عن أفكاره، وجعلها أساسا للاقتراحات التي يتم تبنيها، ومطالبته بإبداء الرأي البناء دوما، وإتاحة فرصة الاختيار أمامه، وعدم تجاهل رغباتهم الإنسانية الأساسية، وعدم الانصراف عنه إن تحدث بطريقة غير منطقية، ومساعدته على حفظ ماء الوجه، والتراجع دون أن يشعر أنه يتنازل، ثم إشراكه في كتابة «خطبة النصر».

5- لا تُصعّد، بل استخدم قوتك لتعلمهم: ويتم هذا من خلال قيام المفاوض بشرح النتائج للطرف الآخر، وأن يحذره دون تهديده، ويوجه له أسئلة من قبيل: ماذا سيحدث لو أنك لم توافق؟ ماذا تظن أني فاعل؟ ماذا ستفعل أنت؟ ثم يستعرض أفضل بدائله التفاوضية، ويستخدم أحسنها في إنضاج الاتفاق دون استفزاز، عبر استخدام أقل قدر من القوة، مع الالتزام بالأساليب المشروعة. وقد يحتاج المفاوض إلى توظيف بعض الحيل لإبطال فاعلية هجوم الخصم، منها اللجوء إلى طرف ثالث وحثه على ضرورة إنجاح المفاوضات، ثم يحدد المفاوض طريق الحل أمام خصمه، ويشعره بأنه مازال أمامه مخرج، ويتركه يختار، وبعدها يصنع المفاوض اتفاقا دائما مع الطرف الآخر، دون أن ينسى آليات تنفيذ الاتفاق، ويجعل هدفه هو تحقيق رضاء الطرفين وليس إحراز النصر.

* كاتب وباحث مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء