في حلقته الثالثة من كتابه «نصيحة واجبة لقادة القاعدة»، يبحر عاصم عبد الماجد معنا في أولى القواعد الفقهية التي اخترعها التنظيم لنفسه كي يطرح رؤى جديدة يختص بها حول الجهاد، وهو ما يسميه المؤلف «استلاب الإمامة»، إذ يشير إلى أن «القاعدة» نصّبت نفسها إماماً للمسلمين، وشددت على حقها في خلع الإمام، وهو ما يفنده عبدالماجد من منطلقات ليست بالبعيدة عن فكر الجماعات الجهادية، ولكنه يصل إلى نتائج مختلفة، وهي أن حق خلع الإمام ليس بالسهولة التي تتحدث عنها، وإنما تحيط به شروط يصعب تطبيقها. وينتهي إلى أن «القاعدة» وقادتها وأتباعها قد خالفوا الشرع وصحيح الدين بإعطاء أنفسهم هذا الحق.

Ad

الجريدة

لمّا كانت شرائع الإسلام لا تقام أو لا يقام أكثرها على وجهه الصحيح إلا بوجود سلطان يعين بسلطته على إقامة الحق وردع أهل الفساد وحماية البيضة والذب عن الحوزة، وهو الذي عرف في التراث الفقهي للأمة باسم الخليفة أو الإمام، ولمّا رأت «القاعدة» -بحق- أن كثيراً من شرائع الإسلام لا تقام على وجهها الصحيح بسبب تقاعس الولاة عن ذلك أو إهمالهم أو امتناعهم وإضاعتهم لكثير من شرائع الدين أو أكثرها، اعتقد إخواننا في «القاعدة» -خطأً- أن لهم الحق في خلع الإمامة على طائفتهم، وليتهم اكتفوا باستلاب هذا الحق وادعائه في قطر من أقطار المسلمين، بل إنهم يتصرفون وكأنهم قد نصبوا أنفسهم أئمة على العالم الإسلامي كله.

الحاكم والجزية

ولعل هذا الوهم قد تسرب إليهم من جراء فهمهم لقاعدة أنه لا شرعية لوالٍ لا يحكم بالشرع على أنها تعني لا وجود لهذا الوالي أصلاً، ومن ثم فلتأخذ «القاعدة» مهامه ووظائفه. وهذا خطأ؛ إذ إن ركن الولاية هو القوة والقدرة، فمن ملك أمر الناس بالرغبة أو الرهبة واستطاع إنفاذ حكمه فيهم، فهو حاكمهم. فإن كان مع ذلك قائماً بالقسط فهو مثاب مأجور وإن كان ظالماً أو فاسقاً فهو آثم موزور، لكن لم يبح الشرع الخروج عليه. أما إن كان كافراً أو مضيِّعاً للشرع، فإنه يجوز الخروج عليه عند توفر شروط ذلك وانتفاء موانعه... لكنه في الأحوال الثلاثة هو الحاكم ومنصب الولاية في الأحوال الثلاثة ليس خالياً.

فإن كان الحاكم مثلاً لا يأخذ الجزية من أهل الكتاب المقيمين في بلاد المسلمين، فإنه لا يحق «للقاعدة» ولا لغيرها من الجماعات أو الأفراد مطالبة أهل الكتاب بأداء الجزية إليهم، لأن الجزية مفوض أمرها في الشرع إلى الإمام أو نائبه لا إلى الرعية أو الطوائف غير الممكنة، ثم إنه يجب لهم علينا إن دفعوا الجزية حق الحماية وهذا لا يقدر عليه إلا الحكام، فمن طالب أهل الكتاب بدفع الجزية إليه فقد نصب نفسه -شعر أم لم يشعر- إماماً وخلع على نفسه خصائص الإمام في هذه الجزئية.

وكذا من جعل لنفسه الحق في الحكم بين المتنازعين والفصل بينهم في الخصومات وفي الدماء والأموال والأبضاع على الهيئة التي يحكم بها القضاة بزعم أن هذه المسائل لا يحكم فيها القضاة بالشرع، فإنه جعل نفسه إماماً في هذه الجزئيات، شعر أم لم يشعر. وأيضاً من نصّب نفسه قيماً على تعاملات أهل الإسلام مع غيرهم من الأمم والدول في أمور العهد والصلح وإعطاء الأمان للأمم الكافرة ونزعه منهم، فقد نصب نفسه إماماً في هذه المسائل كلها، وفي هذا كله من الفتن والفساد ما لا يخفى، لذا قال الفقهاء: إن الإمام شرط في جملة هذه الأحكام فإنها تحتاج ليس فقط إلى معرفة حكم الشرع فيها، ولا إلى إعلان حكم الشرع فيها كما يفعل المُفْتون والعلماء في المسائل التي تُعرض عليهم، ولكنها تحتاج في إنفاذها وإقامتها على الوجه المشروع إلى قدرة واستطاعة تمكن من إقامة الحكم وإنفاذه على وجه لا يؤدي إلى فساد تزيد مضرته على مصلحة إقامة الحكم ذاته، ومثل هذه القدرة والاستطاعة لا تتوفر إلا للحاكم. فإن ترك الحاكم إقامة هذه الأمور على الوجه المشروع إما تكاسلاً وإما عناداً وإما جهلاً بحكم الشرع فيها، وإما لغير ذلك من الأسباب، فلن يكون بمقدور غيره إقامتها على الوجه المشروع أصلاً، أو سيكون بمقدروه إقامتها، ولكن مع مفاسد وفتن تربو مضرتها على مصلحة إقامة الحكم.

لذا نقول: لا يصح للعامة محاولة إقامة هذه الأحكام حتى وإن ضيّعها الولاة لا رضا بإضاعتها، بل لأن في محاولة إقامتها رغم أنف الحكام ومن دون قدرة على الإنفاذ من الشر والفساد ما هو أعلى وأطم، وليس هذا موضع بسط هذه القاعدة وتقريرها، لكن من كان عنده إدراك لكليات الشريعة ومقاصدها ومعرفة بالواقع، اهتدى لما نقوله بأيسر نظر.

سلطة نقض الأمان

وقد تفرع عن إغفال «القاعدة» لهذا الأمر وتعاملها مع أحكام الشرع وقضايا الأمة تعامل الحكام والولاة -وإن لم يشعروا بذلك أو شعروا به ولم يدركوا مغبته ومضرته- تفرع عن ذلك مجموعة من الأخطاء العملية منها:

أنهم أعلنوا الحرب على العالم أجمع وفجروا بأيديهم «صراع حضارات» ليس في مقدورهم خوضه فضلاً عن الانتصار فيه.

ومنها: أنهم نقضوا الأمان الذي أجازت الشريعة للآحاد إعطاءه -لآحاد الكفار- وحثت على الوفاء به كقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «يعقد لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة»، وقد نص الفقهاء على أن للواحد من المسلمين إعطاء الأمان لمجموعة صغيرة من الكفار، أما إعطاء الأمان لأهل دولة أو أمة من أمم الكفر فهو للوالي، وأنه يجب على المسلمين كلهم الوفاء بعهد الأمان الذي أعطاه أحدهم أو أعطاه الحاكم الكفار، وأنه ليس من حق أحد إلا الحاكم نقض الأمان العام، ولا يكون ذلك إلا بسبب صحيح، كخوفه من غدر المستأمن مع ظهور أمارات ذلك، وأنه إذا نقض الحاكم الأمان لم يجز التعرض للمستأمن بل ينبغي إعلامه وإبلاغه مأمنه، وأن إعطاء الأمان جائز وقد يكون واجباً في حالات كقوله تعالى: «وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ»- التوبة:(6)

المستأمنون الأجانب

فانظر كيف ضيّعت «القاعدة» كل هذه الأحكام عندما استلبت لنفسها مقام الإمامة وحثت على قتل كل كتابي دخل بلاد المسلمين مع أن هؤلاء قد دخلوا بأمان من حكام تلك البلاد أو من آحاد المسلمين، وانظر إلى الغدر الذي تعرض له أولئك المستأمنون عندما تفجرت فيهم عبوات ناسفة في بلاد المسلمين -نعم سيقول أنصار «القاعدة» وقد قالوا بالفعل- إن حكام بلاد المسلمين لا يصح أمانهم، ثم إن «القاعدة» أصدرت بيانات أعلنت فيها الحرب على هؤلاء الأجانب فهذا نزع للأمان الذي معهم. ونقول: وما علم المستأمن الأعجمي أن حكام هذه البلاد لا يصح أمانهم، وهل هو متفقه في أصول الدين وفروعه ليعلم هل حكام البلاد يصح أمانهم أم لا يصح؟ ثم هل هو مطالب -قبل دخول بلاد المسلمين- بدراسة الخلاف القائم بين «القاعدة» والحكام؟ هل ما تقوله «القاعدة» حق وأن الحكام بالفعل لا يصح أمانهم، أم أن ما يقوله الحكام هو الحق وأن «القاعدة» هي التي لا تجوز أفعالها؟

بالقطع ليس هذا معقولاً ولا صحيحاً، بل الكافر متى اعتقد أن معه أماناً صحيحاً من بعض أهل الإسلام فله دخول ديارنا ويحرَّم التعرض له، فإن كان ما معه من أمان لا يصلح وجب إعلامه بهذا وإبلاغه مأمنه وحُرِّم قتله وقتاله.

استئذان «القاعدة»

هذا وقد استقر أن الأمان العام يعطيه وينزعه الأئمة، وهذا سار في بلاد المسلمين وبلاد الكفار، ومن دخل من المسلمين إلى بلاد الكفار بموافقة حكوماتها وإذنهم سيغضب قطعاً إن قالت له جماعة معارضة كالجيش الجمهوري الأيرلندي مثلاً في بريطانيا: لا أمان لك وأنت مباح الدم، لأننا لا نعترف بالحكومة الإنكليزية وسيقول ما شأني أنا بذلك؟ وهل أنا مطالب قبل دخول بريطانيا بالحصول على إذن السلطات وكل الجماعات المعارضة علنية أو سرية؟ وكذا سيقول غير المسلم إن قيل له: لا تدخل حتى تستأذن «القاعدة»، لأنها لا تعترف بسلطة الدولة، ثم ما العمل لو ادعت جماعة أخرى حقها هي الأخرى في إعطاء الأمان ونزعه، لأنها لا تعترف بالسلطات الحاكمة ولا تعترف بشرعية «القاعدة»؟ وكيف يكون الحال إن أمنت هذه الجماعة أقواماً بينما «القاعدة» ترى إهدار دمائهم؟ وهل هذا إلا تخليط وفساد وفوضى وفتن لا تأتي الشريعة بمثلها؟

ثم لو سلّمنا جدلاً أن لـ«القاعدة» الحق في إهدار أمان الحكام، لأنها لا تعترف بهم أو بشرعيتهم أو تحكم بكفرهم، فكيف بأمان آحاد المسلمين وكيف بمئات الآلاف من الكتابيين الذي يدخلون ديار الإسلام كل يوم بأمان الأفراد والشركات والهيئات غير الرسمية؟ وهذا كله في الأمان الجائز، فما بالك بالأمان الذي فرض القرآن على المسلمين إعطاءه لسماع القرآن ومعرفة شرائع الإسلام.

بل الحق أنه ليس لـ«القاعدة» أو لغيرها من الجماعات والأفراد التلبس بخصائص الأئمة في إعطاء الأمان العام أو نزعه، بل ذلك من خصائص الحكام وحدهم إن أقاموه على الوجه المشروع فبها ونعمت، وإن أهدروه أو أقاموه على وجه غير مشروع فليس من سلطة الجماعات ولا الآحاد نقضه ولا إلغاؤه، وهذا يعد من قبيل المنكرات التي لا يمكن إزالتها أو يمكن إزالتها مع مفاسد وفتن تربو أضعافاً مضاعفة على مفسدة تأمين كافر على هيئة لا تجوز. وأقل هذه المفاسد والفتن الوقوع في الغدر الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.

كرم الضيافة الأفغاني

إن إحساس «القاعدة» بأنها صاحبة الولاية المطلقة على بلاد المسلمين قد تضخم للدرجة التي جعلتها، وهي مجرد جماعة تسلب سلطات الإمام من ولاة أفغانستان وعلى رأسهم الملا عمر -عافاه الله وأنجاه- فلم تكن الدولة الإسلامية في أفغانستان قد أعلنت الحرب على الولايات المتحدة ولا هي راغبة في ذلك ولا هي قادرة عليه، لكن كرم الضيافة الأفغاني حدا بـ«القاعدة» وقياداتها المقيمة في أفغانستان أن تخطط وتأمر بشن هجوم الحادي عشر من سبتمبر وقبله الهجوم على سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا وغير ذلك.

كل هذا تم من فوق الأراضي الأفغانية وبأناس تربوا هناك وآوتهم أفغانستان مدداً طويلة، وكلنا يعلم ما يحدث بعد ذلك من اجتياح مدمر لأفغانستان... فكيف استباحت «القاعدة» أن تتصرف كحاكم لهذه البلاد وتدفع أفغانستان نحو حرب أميركا؟ وهل حاكم أفغانستان هو الآخر ساقط الشرعية في عرف «القاعدة»؟ وهذه مسألة تستحق الدراسة والتمحيص وليس المقام هنا متسعاً لذلك.

ومن هذا الباب -أعني ادعاء «القاعدة» حق الولاية على الأمة كلها- ظنها أنها متى نادت إلى القتال وأعلنت النفير لم يجز لأحد من الأمة عالماً أو غير عالم، صالحاً أو غير صالح أن يخالفها في ما ذهبت إليه، حتى أن الأخ أسامة بن لادن يعد من يخالفه في الرأي مخذلاً، وهذا عجيب منه، إذ إن الإمام وحده هو صاحب الحق في إعلان النفير العام، وعندئذ يعد أي شخص يصد الناس عن الخروج إلى الجهاد مخذلاً، أما الأفراد والجماعات فليس لهم سلطة إعلان هذا النفير، كما أنه لا يعد من خالفهم الرأي في إعلانهم الجهاد سواء لمبررات شرعية أو واقعية لا يعد مثل هذا بحال مخذلاً.