المشرق والمغرب
من مفاهيم الزمان المزدوجة في القرآن مثل الضحى والعشي، والليل النهار، والأمس والغد «المشرق والمغرب»، وهما الأكثر استعمالا أو «الشروق والغروب» وهما الأكثر دلالة على الزمان، وهو الزمان الجغرافي المرتبط بدوران الأرض حول نفسها كل أربع وعشرين ساعة مرة، فينشأ تعاقب الليل والنهار، والشروق والغروب، واليقظة والنوم، والنور والظلام.وقد ورد لفظ «شرق» في القرآن سبع عشرة مرة في صيغ عديدة كلها اسمية باستثناء مرة واحدة في صيغة فعلية «أشرق» بمعنى أشرقت الأرض أي سطع عليها النور حين الشروق «وَأشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا». والصيغة الأكثر استعمالا «المشرق» بالمفرد في مقابل «المغرب»، وكلاهما لله في «وَلِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ». وهو ما اعتمد عليه الصوفية في وحدة الشهود ووحدة الوجود، ويهدي الله من يشاء إلى أي اتجاه «قُلْ لِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ». وليس الإيمان في الاتجاه المكاني بل في تقوى القلب «لَيْسَ الْبِرَّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ»، والله هو رب المشرق والمغرب بحكم العقل «قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ». إله واحد عليه التوكل «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إلَهَ إلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً». هو الذي يأتي بالشمس من المشرق ويجعلها تغرب من المغرب كقانون طبيعي ضروري وليس إرادة الإنسان الحرة «فَإنَّ اللهَ يَأتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ». ويستعمل اللفظ في صيغة المثنى مرتين، فالله هو رب المشرقين «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ»، ويرمز إلى البعد «يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ»، ويستعمل في صيغة الجمع ثلاث مرات، فالله هو رب المشارق ورب المغارب «فَلا أقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ»، وهو رب المشارق والسموات والأرض وما بينهما «رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ». ويعني اللفظ جمعا أيضا جميع الأمكنة التي يمارس فيها الإنسان نشاطه «وَأوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا»، أما الاستعمالات الأخرى فتعني وقت الشروق بالجمع، «فَأخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ»، «فَأتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ».
وقد يكون في صيغة «إشراق» بمعنى الصباح مقرونا بالعشي «يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ»، وقد يعني الاتجاه نحو الشرق «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا»، فالشرق كمكان أفضل من الغرب، والحقيقة في الوسط لا شرقية ولا غربية «يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ»، ضد الميل والانحياز للأطراف. أما لفظ «غرب» فقد استعمل ست عشرة مرة تقريبا على قدر مساوٍ للفظ «شرق» وبنفس المعاني، أكثرها في صيغة اسمية، أربع عشرة مرة، ومرتين فقط في صيغة فعلية لوصف غروب الشمس على أهل الكهف «وَإذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ» أو أمام ذي القرنين «حَتَّى إذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ». والأكثر استعمالا في الصيغ الاسمية المفردة «المغرب»، سبع مرات لوصف الله بأنه مالك المشرق والمغرب «وَلِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ»، وهو «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ». وفي المثنى مرة واحدة «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ»، وفي الجمع مرتين «رَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ»، ووراثة الكون كله للمستضعفين في الأرض «وَأوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا». وهو وصف للمكان «وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إذْ قَضَيْنَا إلَى مُوسَى الأمْرَ»، وهو صفة للوسطية «لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ».ويتضح من هذا التحليل أن اللفظين «شرق» و«غرب» مرتبطان بالزمان المكاني أكثر من ارتباطهما بالزمان الإنساني، فالكون له زمان كما أن الإنسان يعيش في الزمان، ويعنيان أيضا المكان الشامل، والله رب المكان والزمان، فيهما يتجلى الحضور الإلهى وتتحقق القدرة الإلهية.وفي الاستعمالات اليومية «لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ» هو المعنى الأكثر تداولا، ويعني عدم الانحياز والوسطية كما تجلت في سياسة عدم الانحياز بين الشرق والغرب وفي مفهوم العالم الثالث ومفهوم الحياد الإيجابي، كما يستخدمان أيضا ضد السلوك المتطرف والمواقف المتطرفة، وهو ما يتفق مع وصف الأمة بأنها أمة وسط، وأحيانا يستعمل على نحو سلبي لتثبيت الوضع القائم والوقوف ضد التغيير بدعوى الوسطية وكأن كل تغير هو تطرف بالضرورة، وهو ما تفعله الطبقة المتوسطة دفاعا عن حقوقها ضد الطبقتين المتطرفتين الأخريين، العليا والدنيا، الأغنياء والفقراء. تدافع عن القانون والنظام، فكل دعوة من الفقراء للمشاركة في أموال الأغنياء تطرف شيوعي، وكل دعوة للأغنياء لمزيد من الغنى تطرف رأسمالي، مع أن الله هو الجامع لكل شيء، وهو الشامل لكل الاتجاهات، والجامع لكل الطبقات، وهو الواحد الذي يجمع اثنينية المشرق والمغرب، وجمع المشارق والمغارب.* كاتب ومفكر مصري