الدستور هو الوثيقة التي صاغتها الإرادة الشعبية الممثلة في المجلس التأسيسي المنتخب، وصدق عليها الأمير وأصدرها عهداً وميثاقاً بين الحاكم والمحكومين، مبيناً نظام الحكم في الكويت، مقرراً مسؤولية القائمين بالعمل العام أمام ممثلي الأمة، في مجلسهم المنتخب بإرادة الجماهير، مبلوراً طاقاتها وملكاتها، واضعاً الضوابط والقيود التي تحول بين السلطات العامة واقتحام الحدود التي تفصل في ما بينها، كافلاً للأفراد حقوقهم وحرياتهم.
وكان الأصل الجوهري في بناء العهد الجديد -حسبما أفصحت عن ذلك المذكرة الإيضاحية- والذي قام بمنزلة العمود الفقري لهذا الدستور، هو الحفاظ على وحدة الوطن واستقراره... ومن هنا جاء الحرص في الدستور على أن يظل رئيس الدولة أباً لأبناء هذا الوطن جميعاً، يتم الاحتكام إليه، عندما يقرر مجلس الأمة عدم إمكان التعاون مع رئيس مجلس الوزراء (مادة 102) فيكون الأمير حكماً إن شاء أخذ برأي المجلس وأعفى الوزارة، وإن شاء احتفظ بالوزارة وحلّ المجلس، وهو ما قد يراه الأمير كذلك عندما تنشب أزمة من الأزمات السياسية بين الحكومة ومجلس الأمة، فيقرر حل مجلس الأمة، من دون أن يقيده في ذلك أي قيد زمني، كما فعلت بعض الدساتير، اكتفاءً بالقيد التقليدي المهم الذي بمقتضاه إذا حُلَّ المجلس لا يجوز حله للأسباب نفسها مرة أخرى، مع وجوب إجراء الانتخابات للمجلس الجديد في ميعاد لا يجاوز شهرين من تاريخ الحل، وإلا استرد المجلس كامل سلطاته الدستورية، لحين اجتماع المجلس الجديد، واجتمع فوراً كأن الحل لم يكن (مادة 107).استحضرت هذه الأحكام في وعيي وعقلي وأنا أطالع ما تناقلته الصحف من أن هناك توجهاً إلى تجريم الحض على حلّ مجلس الأمة، حلاً غير دستوري، سواء بالقول أم الكتابة أم النشر أم أي وسيلة أخرى، وعقاب مَن يرتكبه بعقوبة الحبس الذي لا تجاوز مدته خمس سنوات وغرامة لا تجاوز خمسة آلاف دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين.وفي اعتقادي أن المطالبة بحلّ غير دستوري لمجلس الأمة، يتساوى والمطالبة بتعطيل حكم من أحكام الدستور، لهذا اقترن حلّ مجلس الأمة حلاً غير دستوري بالأمرين الأميريين الصادرين في 29/8/1976 و3/7/1986 بتعطيل بعض مواد الدستور، والمطالبة بتعطيل حكم من أحكام الدستور أو بتعطيل الدستور كله، هو موقف سياسي، لا يجوز أن يكون محلاً لتجريم، ولا أن يعاقب عليه صاحبه، وهو تظلله حرية التعبير التي كفلها الدستور لكل فرد، طالما أن صاحب هذا الرأي لم يدعُ إلى تنفيذ مطلبه بالعنف، ومع ذلك فإن الدستور قد واجه الحل غير الدستوري، أي الذي لا يتم في أعقابه، وخلال ستين يوماً، الدعوة إلى انتخابات جديدة لمجلس الأمة، واجهه الدستور بالجزاء المناسب له، وهو اجتماع المجلس المنحل واسترداده كامل سلطاته الدستورية في اليوم التالي لانقضاء هذا الميعاد. ويذكر في هذا السياق أنه في بداية تطبيق دستور مصر سنة 1923، والذي كان أول دستور يصدر في مصر بعد إعلان رفع الحماية البريطانية عنها، كان يوجد نص مماثل لنص المادة (107) من الدستور الكويتي، وعندما حل الملك البرلمان الذي انتخب في عام 1924، ودعا إلى إجراء انتخابات لمجلس جديد خلال الميعاد الذي حدده الدستور، فوجئ الملك والاحتلال بعودة حزب الوفد بالأغلبية التي كانت له في المجلس السابق وانتخاب سعد زغلول رئيس الحزب وزعيم الأمة رئيساً لمجلس النواب، فقرر حل البرلمان، في اليوم الأول من انعقاد المجلس الجديد، من دون أن يدعو إلى إجراء انتخابات، ثارت قوى الشعب ولعبت الصحافة دوراً لا يستهان به في الدعوة إلى استرداد البرلمان السابق كامل سلطاته الدستورية في اليوم التالي لانقضاء المهلة التي حددها الدستور لإجراء الانتخابات البرلمان جديد، في سلسلة من المقالات، تسوق بعض العناوين التي حملتها فيما يلي:(الدستور يحتم اجتماع البرلمان في يوم السبت الثالث من الشهر الحالي- بطلان مرسوم حل مجلس النواب- المجلس المنحل موجود قانوناً ويجب اجتماعه- رئيسا مجلس النواب والشيوخ مطالبان بدعوة أعضاء البرلمان للاجتماع في يوم 21 نوفمبر تنفيذاً للمادة (96) من الدستور- ليس الدستور قصاصة ورق- مرسوم حل مجلس النواب باطل- لأن الوزارة امتنعت عن تنفيذ أحكامه الأساسية وخالفت نصوص الدستور- مسؤولية الوزارة الجنائية إذا خالفت الدستور بتأجيل الدستور على أثر حل مجلس النواب- إذا لم ندافع عن الدستور استمرت الوزارة في ثورتها عليه).وكان أول من اجتمع تلبية لهذه الدعوة هو الحزب الوطني بالرغم من أنه لم يكن له في البرلمان إلا عدد محدود من الأعضاء، وقرر الحزب يوم 13 نوفمبر دعوة أعضائه في مجلس النواب والشيوخ وكل مَن ينحو نحوهم ويسير سيرتهم إلى تلبية هذه الدعوة والتوجه إلى البرلمان يوم السبت 21/11/1925 حتى يؤدوا واجبهم حيال أمتهم، وحيال وطنهم وحيال دستور البلاد، وحيال حزبهم، وحيال مبادئهم، واجتمع حزب الوفد، واصدر القرار نفسه، كما أصدر حزب الأحرار الدستوريين القرار ذاته. واجتمع مجلسا النواب والشيوخ في فندق «كونتننتال» بعد أن حالت قوى الأمن دون اجتماعهم في مقر البرلمان، اجتمعوا بهيئة مؤتمر أصدروا فيه قرارهم بعدم الثقة بالوزارة طبقاً للمادة (95) من الدستور وبطلان المرسوم الصادر بحلّ المجلس، واعتبار دور الانعقاد مستمراً.وكانت جموع الشعب المحتشدة أمام فندق «كونتننتال»، تحيي المجتمعين وتؤيدهم.وإلى مقال قادم لبيان ما يُحيِّد الاقتراح بقانون المزمع تقديمه من شبهات عدم دستوريته.
مقالات
ما قل ودل: تجريم الدعوة إلى حل مجلس الأمة (1-3)
28-07-2008