المقاومة الفلسطينية عصية على الإزالة
إن العدوان الحالي لا يمكنه أن يستهدف فقط تأديب «حماس» أو حتى إزاحتها عن السلطة، كما تقول إسرائيل في تبريرها لهذه الفعلة الخرقاء الحمقاء، بل ترمي إلى تدميرها تدميراً كليا، حتى يمكن لإسرائيل أن تطيل عمرها بقدر ما تستطيع، لاسيما أن الطرف الذي تواجهه هذه المرة يرفض وجودها.وضعت إسرائيل هدفا مركزيا ظاهريا للحلقة الراهنة من سلسلة عدوانها الوحشي على الشعب الفلسطيني تمثل في إجبار حركة المقاومة الإسلامية «حماس» على الرحيل الفعلي عن السلطة في قطاع غزة بعد إزاحتها نظريا بيد فلسطينية عبر قرار حل حكومتها، واعتبارها غير شرعية. وتسوق إسرائيل هذه الخطوة وفق ثلاث ذرائع، الأولى هي أن «حماس» مجرد خنجر إيراني-سوري في خاصرة إسرائيل، والثانية أن الحركة تهدد المدن والبلدات والمستوطنات الإسرائيلية المتاخمة للقطاع أو القريبة منه عبر إطلاق صواريخ معروف أنها محدودة المدى وضئيلة القدرة التدميرية وضعيفة الدقة التصويبية، أما الثالثة فتتعلق بكون «حماس» حجر عثرة أمام استئناف التفاوض مع الفلسطينيين في اتجاه إقامة دولة لهم. عند هذا الحد تحاول إسرائيل أن تصور للعالم سياستها حيال «حماس» وكأنها نابعة من «تكتيك» يرتبط بالحالة الراهنة أو الظرف الذي طرأ بعد انقسام الصف الفلسطيني وتمرد الحركة على منطق «التسوية» وإجراءاتها، لكن في حقيقة الأمر فإن إقدام تل أبيب على ضرب غزة يتعدى مجرد تمهيد الطريق أمام التفاوض، أو مساعدة الرئيس محمود عباس (أبو مازن) على استعادة سلطته، أو حتى إزاحة الحركة عن الحكم الذي تصر على البقاء فيه، لتصل تل أبيب إلى ما هو أبعد من هذا بكثير، أي إلى ما يشكل جزءا من استراتيجية متكاملة الأركان لإزالة «حماس» تدريجيا، أو إضعافها إلى حد تفقد معه أي قدرة على تشكيل رقم فاعل في الحياة الفلسطينية، وبالتالي لا يعد بوسعها أن تمثل أي تهديد حقيقي لوجود إسرائيل ومستقبلها.
وقد يقول البعض إن الخطر الحقيقي على إسرائيل هو استعادة وحدة الصف الفلسطيني حتى لو على أشلاء «حماس»، لأن هذه الوحدة ستعيد الفلسطينيين إلى المطالبة بدولتهم المستقلة، وهي الخطوة التي لم تخف تسيبي ليفني موقفها منها حين قالت ذات يوم: «قيام دولة للفلسطينيين تهديد مباشر لوجود إسرائيل ومستقبلها». لكن من يمعن النظر في النقلات التاريخية للقضية الفلسطينية يدرك أن تل أبيب باتت تتعامل بواقعية مع الوضع الذي آل صراعها مع العرب عامة، والفلسطينيين خاصة. فقد بدأت إسرائيل لحظة إنشائها قبل ستين عاما بأوهام دولة تمتد من النيل إلى الفرات، ثم نزلت عن هذا عقب هزيمتها في حرب أكتوبر 1973 وبدأت تتحدث عن «الحدود الآمنة»، لكنها لم تلبث أن انتهت بالبحث عن ترسانة صواريخ مضادة للصواريخ العربية التي بات بوسعها أن تصل إلى كل نقطة في إسرائيل، ثم قبلت على مضض عودة ياسر عرفات ورفاقه إلى الضفة الغربية لتأسيس «سلطة وطنية» عساها أن تتفادى التأثير الكبير الذي أحدثته انتفاضة الحجارة التي اندلعت في نوفمبر 1987، لتجد نفسها أمام خطاب قوي متماسك عن «دولة فلسطينية» ظل عرفات يردد حتى أنفاسه الأخيرة أن القدس ستكون عاصمة لها. وتظل هذه الخطوة هي الأقل فداحة على إسرائيل، مقارنة بالخيار الآخر المتمثل في إعادة احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، وإنهاء السلطة الفلسطينية، وإغلاق صفحتها تماما. فمثل هذا التصرف سيعزز الخيار الآخير أمام الفلسطينيين جميعا، والمتمثل في إسقاط تصور «دولتين لشعبين» وبدء التعامل بجدية وواقعية مع تصور «دولة واحدة للعرب واليهود»، ستصبح الغلبة فيها للعرب بعد حين من الدهر وفق منطق الديموغرافيا وحساباتها. ورغم أن هذه الفكرة تبدو لكثيرين- حتى الآن- طرحا خياليا، إلا أنها بدأت تتفاعل في السنوات الأخيرة على المستويين الأكاديمي والسياسي. فها هو المؤرخ اليهودي الأميركي توني جوت يطرحها حلا ناجعا للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وها هي الأدبيات الغربية تتراكم حول رفض جدار الفصل العنصري الذي أقامته تل أبيب وتشبه بنظيره الذي كان قائما في جنوب أفريقيا، وها هو الرئيس الليبي يتحدث عن «إسراطين»، بل إن وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط هدد قبل شهور قليلة بأن رفض إسرائيل للتسوية والمبادرة العربية للسلام لا يجعل أمام العرب من بديل سوى تبني خيار «إسراطين» حيث الدولة الواحدة التي يتساوى فيها المواطنون كافة في الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومن دون جدل أو شك فإن هذه الفكرة هي بداية النهاية بالنسبة لإسرائيل، كدولة قائمة على أساس الدين اليهودي.هذه التراجعات المتتالية المفروضة قسرا على فكرة الدولة الإسرائيلية وحدود قوتها وغطرستها وطبيعة إيديولوجيتها يجعلها متخوفة إلى حد الرعب من تنامي «حماس» ونظيراتها من قوى المقاومة، لاسيما تلك التي يربطها حبل سرى غليظ بقوى إقليمية تناصب إسرائيل العداء. وزاد هذا التخوف بعد تمكن «حزب الله» من هزيمتها في صيف عام 2006. وبات من الواضح أنه ليس بوسع تل أبيب أن تتحمل طويلا وقوعها بين شقي الرحى، «حزب الله» في الشمال و«حماس» في الجنوب، لاسيما بعد صمود الحركة في وجه الحصار المفروض عليها، وتمسكها بمواقعها وظهور احتمالات لتمدد نفوذها في الضفة الغربية نفسها على حساب حركة «فتح». لهذا كله فإن العدوان الحالي لا يمكنه أن يستهدف فقط تأديب «حماس» أو حتى إزاحتها عن السلطة، كما تقول إسرائيل في تبريرها لهذه الفعلة الخرقاء الحمقاء، بل ترمي إلى تدميرها تدميراً كليا، حتى يمكن لإسرائيل أن تطيل عمرها بقدر ما تستطيع، لاسيما أن الطرف الذي تواجهه هذه المرة يرفض وجودها ويتعامل معها على أنها جيب استيطاني استعماري وكيان غريب مزروع عمدا في أرضنا العربية.لكن معطيات التاريخ والواقع تقول بجلاء ومن دون أي مواربة إن هذا التصور مجرد وهم إسرائيلي جديد، فحركات المقاومة لا تموت أبدا، فكلما قطع لها ذراع نبت لها أذرع، وكلما قتل لها قيادي ولد عشرة، وهي من السمات الأصيلة للظاهرة الفلسطينية الحديثة والمعاصرة، ناهيك عن أنها من الصفات الثابتة للمقاومين في كل زمان ومكان، ومن ثم فإن النتائج بعيدة المدى للمجزرة الإسرائيلية الحالية ضد سكان قطاع غزة لا تصب بكل الأحوال ووفق كل الاتجاهات في مصلحة إسرائيل، وكل ما تفعله هو تأخير استحقاقات تاريخية آتية لا محالة.* كاتب وباحث مصري