جورجيا ولبنان!
هناك أشياء كثيرة تجعل العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية متوترة، في مقدمتها الأنابيب الناقلة للطاقة من حوض بحر قزوين إلى أغلبية دول أوروبا الغربية والشرقية.
أثارت تصريحات الرئيس السوري بشار الأسد، التي أدلى بها خلال زيارته الأخيرة إلى منتجع سوتشي الروسي، حيث أجرى محادثات مهمة جداً مع القيادة الروسية الشابة، وقال فيها: «إن ما يجري بين روسيا وجورجيا هو شبيه بالوضع القائم بين سورية ولبنان» ردود أفعال كثيرة، خصوصا في الأوساط اللبنانية من خارج إطار تحالف «حزب الله» وحركة «أمل» مع بعض الأطراف الهامشية في الطائفة المارونية والطائفة السنية المبتلاة بالتمزق وغياب وحدة الموقف والرأي. وحقيقة أنه ما كان من المفترض أن يقال مثل هذا الكلام، خصوصا في هذه الفترة بالذات حيث ساد إحساس، بعد زيارة الرئيس اللبناني ميشال سليمان الأخيرة الى دمشق، لدى اللبنانيين الذين كانت تساورهم شكوك كثيرة تجاه واقع ومستقبل العلاقات السورية-اللبنانية، بأن هذه العلاقات بدأت تضع أقدامها على بداية مرحلة جديدة وأن الاتفاق على تبادل العلاقات الدبلوماسية وعلى ترسيم الحدود قد أنهى عهداً طويلاً من الإصرار على صيغة التابع والمتبوع وعدم اعتراف الشقيق الأكبر بالشقيق الأصغر على اعتبار أن ولادة هذا الأخير قد جاءت على يد القابلة: «سايكس- بيكو» التي على يديها وُلدت الكيانات القُطرية العربية كلها. لا يحق لأي كان أن يعترض على انحياز سورية لروسيا بالنسبة لحرب القوقاز الأخيرة فهذه مسألة «سيادة» والرئيس بشار الأسد هو الذي يقرر أين يجب أن تقف بلاده في صراع مع أنه إقليمي إلا أن أبعاده في حقيقة الأمر دولية، وهي أبعاد تنذر بعودة عالم اليوم إلى الحرب الباردة التي رحلت مع رحيل الاتحاد السوفييتي في بدايات تسعينيات القرن الماضي، لكن الاعتراض ومن موقع الحرص والمحبة أيضاً هو على تشبيه ما بين روسيا وجورجيا بما هو قائم بين سورية ولبنان فهذا سيشعر «اللبنانيين»، مـن خارج تحالف «حزب الله» وحركة «أمل» مع بعض المجموعات الهامشية من طائفتي السنة والموارنة، بأن التوجهات السورية السابقة المتواصلة منذ فجر الاستقلال وحتى هذه اللحظة لاتزال على ما كانت عليه، وأن ما قيل كله عن عهد جديد ومرحلة جديدة بين الدولتين الشقيقتين هو مجرد «تطييب» للخواطر، خواطر الأوروبيين، حتى نهاية هذه الفترة الانتظارية التي من المفترض أن تنتهي بمجرد رحيل إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش عن البيت الأبيض. هناك أشياء كثيرة تجعل العلاقات بين روسيا والغرب، الولايات المتحدة الأميركية على وجه التحديد، متوترة على هذا النحو في مقدمتها الأنابيب الناقلة للطاقة من حوض بحر قزوين إلى أغلبية دول أوروبا الغربية والشرقية، وهناك إصرار الأميركيين على إبقاء الروس في بيت طاعتهم على غرار ما كان عليه الوضع في عهد بوريس يلتسن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وهناك أيضاً إصرار واشنطن على اللعب في ما يوصف بأنه الحديقة الخلفية لـ«الكرملين»... فهل هذا ينطبق على العلاقات التي من المفترض أنها مستجدة بين سورية ولبنان والتي تتجه، كما يقال، نحو أن تصبح بين دولتين شقيقتين متكافئتين لا تنتقص أيٌّ منهما من مكانة الثانية لا بحكم الشقيق الأكبر ولا بحكم أي اعتبارات أخرى. في مـرحلة ما بعد عام 2005 لم يعد هناك أي وجه للمقارنة بين علاقات موسكو بـ«تبليسي» وعلاقات دمشق ببيروت فالروس بعد أن انتهت مرحلة عهد بوريس يلتسين المريضة باتوا يصرون على استعادة مكانة ونفوذ الاتحاد السوفييتي السابق، لذلك فإنهم يرفضون أن تخرج أيٌّ من الدول التي تسمى «مستقلة»! ولو بمقدار خطوة واحدة، من دائرة المجال الحيوي الروسي، ولذلك فإنهم فعلوا بـ«جورجيا» ما فعلوه، ولذلك أيضاً فإنهم على استعداد أن يفعلوا أكثر مما فعلوه إذا حاولت أي مـن هذه الدول «المستقلة» أن تمارس استقلالها خارج إطار الهيمنة الروسية. ربما لم يقصد الرئيس السوري في تصريحاته هذه أياً من الاستنتاجات الآنفة الذكر، لكن ما يجب أخذه بعين الاعتبار، حتى إن قيل كل ما قيل في إطار النوايا الحسنة، هو أن اللبنانيين كلهم من خارج حلف «الممانعة» ومن خارج البطانة المنتفعة من هذا الحلف، الذي بات حتى أهله الفعليون يخجلون من ذكره، غدت تساورهم شكوك فعلية بأن دمشق ربما لاتزال تصر على علاقاتها القديمة ببيروت، وأن ما يقال كله عن الاعتراف المتبادل والعلاقات الدبلوماسية على غرار ما هو بين الدول المستقلة هو مجرد جملة اعتراضية مؤقتة... ومجرد وقفة تهدئة بين شوطين! * كاتب وسياسي أردني