بيروت فوجئت هي الأخرى بالعرض الروسي بتقديم عشر طائرات «ميغ 29» مجاناً لتقوية سلاح الطيران اللبناني. لكنها كتمت عواطفها، وركـزت بصورة علنية على الأهمية السياسية لهذه الهبة وليس على ما يمكن أن تفعله طائرات «الميغ» العشر بتغيير في ميزان القوى العسكرية.

Ad

إن الأهمية السياسية للصفقة تكمن في أن باب روسيا بات مفتوحاً على مصراعيه، ليس في تزويد السلاح فحسب، بل في إمكان الاعتماد عليها كحليف استراتيجي في تأييد ودعم الاستقلال والسيادة اللبنانيين من دون شروط عندما تدعو الحاجة إلى ذلك، خصوصا أن الخطر الإيديولوجي لم يعد موجوداً، بعد زوال الاتحاد السوفييتي، وما يمثله من شروط الموافقة على المبادئ الماركسية- اللينينية، أو على الاقل غضّ النظر عن النشاط الشيوعي.

باختصار، فإن بيروت لم تعد تنظر بعين الريبة والشك إلى نوايا روسيا. صحيح أن الدول الكبرى والصغرى على حد سواء ليست مؤسسات خيرية تعطي بلا حساب لوجه الله، لكن الثمن الذي يجب أن يدفعه لبنان في ارتباطه العسكري ومن ثم السياسي بروسيا يشكل حماية للبنان وليس تهديداً. وسيراً على المثل القائل إن لكل زمان دولة ورجال، فإن بيروت باتت على يقين بأن لعبة جديدة بقواعد جديدة بدأت تظهر على المسرح السياسي الدولي، ويجب الارتباط السطحي بها بانتظار معرفة أبعاد وقواعد هذه اللعبة التي باتت شبه معروفة، وهي أن روسيا وجدت فرصتها في شن هجوم سياسي على منطقتنا لملء الفراغ الأميركي الناتج عن أخطاء واشنطن الذي بدأت دائرته تتسع بشكل لافت.

ولبنان يهمه أن يواكب هذه اللعبة حفاظاً على مصالحه، في هذه الظروف المليئة بالغموض والمفاجآت بانتظار ما تأتي به رياح المستقبل. يضاف إلى ذلك أن لبنان بحاجة ماسة إلى إنشاء علاقات استراتيجية مع دولة فاعلة يزداد نفوذها في العالم مثل روسيا الاتحادية. وقد جاءت الفرصة تسعى اليها بأقدام ثابتة عبر هبة الطائرات، وما تعنيه وترمز إليه في الإطار السياسي الاستراتيجي. ومن الغباء تجاهل هذه الفرصة، بل يجب التمسك بها ولكن بهدوء وحذر ومن دون إبداء أي حماسة قد تؤثر على العلاقات القديمة العهد مع العالم الغربي وبصورة خاصة مع الولايات المتحدة الأميركية.

ان هذا التحليل ليس تحليلاً شخصياً بل هو نابع من سلسلة المناقشات التي جرت في أروقة بيروت السياسية بدءاً من قصر بعبدا وانتهاءً بالأحزاب والتيارات السياسية المختلفة في لبنان وذلك بعد عودة الوفد العسكري اللبناني برئاسة وزير الدفاع إلياس المرّ من زيارة موسكو حيث طرح على النقاش الرسمي والحزبي موضوع الهبة الروسية وتأثيرها على مستقبل لبنان في علاقاته الخارجية. ويمكن القول إن التفاهم بين الجميع كان واضحاً، أي بين الموالاة والمعارضة وأركان الدولة، وقد توصلوا إلى مبدأ الترحيب بما ترمز إليه هذه الهبة، وبالتالي متابعة البحث مع موسكو بهدوء ورويَّة دون أي مؤثرات خارجية إقليمية ودولية والتركيز الفعّال على مصلحة لبنان في حماية نفسه من العواصف القادمة. وانطلاقاً من ذلك جرى تكليف الأجهزة المختصة في قيادة الجيش بإبداء رأيها عبر دراستين: الأولى، جدوى قبول هبة «الميغ». والثانية، وضع لائحة بما يريده لبنان من الترسانة الروسية، مع الأخذ بالاعتبار واقع إمكان استيعاب القوات المسلحة لهذا النوع من الطائرات الفعّالة.

في الدراسة الأولى، يبدو أن ذوي الاختصاص في وزارة الدفاع اللبنانية يميلون، ليس إلى رفض هبة طائرات «الميغ»، بل إلى تأجيل القبول بها الى حين استكمال الاستعدادات على الأرض لاستقبالها ووضعها في الخدمة الفعلية. إن الميزات العسكرية لهذا الجيل من الطائرات، وهي مقاتلات اعتراضية، ويمكن استخدامها في حالات استثنائية معينة كطائرات قاذفة وتطير بسرعة تفوق سرعة الصوت، يحتاج تشغيلها في لبنان إلى تأهيل وإنشاء القواعد والمطارات المناسبة لها، خصوصاً بناء مدارج تستوعبها من الناحية الفنية وبصورة خاصة بناء مخابئ لوقاية هذه الطائرات من خطر هجوم عدائي مفاجئ عليها وتدميرها على الأرض. كذلك من الضروري جداً إنشاء شبكة حماية للمطارات مؤلفة من شبكة دفاع جوي صاروخية ومنظومة فنية من المهندسين لتأمين الصيانة والتذخير.

ثانياً: يجب تأمين شبكة إنذار جوي مبكّر ليس على صعيد الوجود الجغرافي لهذه المطارات، بل على صعيد المساحة الجغرافية اللبنانية بكاملها حتى يصار إلى استخدام الطائرات في الوجهة الصحيحة. وإذا لم يتم ذلك كله، فإن الطائرات تصبح هدفاً سهلاً للتدمير على الأرض وقبل أن تنطلق لتقوم بمهامها الدفاعية.

ثالثاً: إنشاء غرفة عمليات جوية خاصة مزودة بأحداث أنواع «الكومبيوترات» بحيث تكون مرتبطة تكنولوجياً بشبكة إنذار رادارية للتعامل بفعالية مع الأحداث الجوية المعادية، وتدريب ما لا يقل عن 30 طياراً مع مجموعة من الفنيين والمهندسين قد يزيد عددهم على المائة لمدة سنتين على الأقل. إن هذا التدريب يتطلب الانتقال من «العقيدة» الغربية التي تدرّب عليها الجيش إلى «العقيدة» الشرقية. وكلمة «العقيدة» هنا تعني استيعاب السلاح وهي كلمة مستخدمة في القاموس العسكري اللبناني، وليس لها أي معنى سياسي آخر. إن هذا الانتقال يشكل مشكلة للقيادة العسكرية التي يجب أن تسعى إلى التزاوج بين هاتين العقيدتين.

رابعاً: إن إنشاء شبكة دفاع جوي تشمل الأجواء اللبنانية كافة تتطلب منظومات صاروخية حديثة قصيرة ومتوسطة المدى، فمن يزود لبنان بهذا النوع من الصواريخ الحديثة؟

هذا من الناحية العسكرية، أما الناحية المالية فإن الدراسة العسكرية التي قـُدِمت إلى أصحاب القرار تشير إلى رقم مالي كبير للقيام بهذه الأعمال قبل استقبال طائرات «الميغ 29». وتذكر الدراسة رقماً يتجاوز ملياري دولار في المرحلة الأولى وقد يزداد إلى الضعف. هذا بالإضافة إلى ضرورة رصد مبالغ كبيرة في الميزانية اللبنانية السنوية تصرف على إدامة وتطوير هذا المشروع في الوقت الذي تعاني فيه الخزينة اللبنانية أزمات مالية مكشوفة وأزمات لم تكشف بعد من شأنها أن تزيد أرقام الاستدانة من حوالي 50 مليار دولار إلى رقم غير ثابت وقد يصل إلى 70 ملياراً. فمن أين تأتي الحكومة بالمال؟

كل ذلك وغيره أيضاً قد يدفع بيروت إلى الاعتذار عن قبول هبة طائرات «الميغ» في الوقت الحاضر، مع إبداء الشكر والامتنان.

هناك ناحية مهمة لم تدخل في حسبان إلا فئة قليلة من المسؤولين العسكريين الكبار، وهي أن سورية تملك كل ما ذكرناه أعلاه، ولديها شبكة صاروخية ورادارية لا تغطي الأجواء السورية فحسب، بل تغطي أيضاً الأجواء اللبنانية كلها حتى تصل إلى أجواء قبرص غرباً، وربما الأردن شرقاً. إن اقامة لبنان لشبكة مماثلة هو عمل مزدوج لا فائدة منه طالما أن لبنان مازال مرتبطاً بمعاهدة عسكرية مع سورية يزيد عمرها على الـ 35 سنة تغطي بموجبها سورية الأجواء اللبنانية لأن هذه الأجواء جزء أساسي ورئيسي في منظومة الأمن السوري القومي. وهذه المعاهدة مازالت سارية المفعول لكنها جُمّدت في الفترة الأخيرة، وبالإمكان إعادة إحيائها بسرعة ومن دون تكاليف مالية كبيرة.

أما الدراسة الثانية عن احتياجات لبنان لتقوية جيشه على الأرض فلم ينته وضعها بالكامل إلى اليوم. غير أنها لاحظت، وبإصرار، أن ما يحتاجه لبنان اليوم من روسيا هو ناقلة جند تدعى (B.M.P) تحمل عشرة جنود، ومزودة بمدفع من عيار (105) مع صواريخ أرض- أرض، وهي سريعة الحركة وسهلة المناورة وكانت أحد اعمدة «حلف وارسو». إن لبنان- حسب الدراسة غير المنتهية- يحتاج من (500) ناقلة إلى ألف ناقلة. وهذه الناقلات متوفرة بكثرة في الترسانة الروسية، وسورية لديها العديد من هذا النوع.

* * *

مهما كان الأمر، فإن جسر الثقة والتعاون بين بيروت وموسكو قد تمّ إنشاؤه وجرى تدشينه بصورة رسمية. وهذا يعني أن الروس قد وصلوا أخيراً الى ربوعنا.

* كاتب لبناني