سورية «قلب العروبة النابض» و«قلعة الكرامة العربية» و«حاملة لواء الصمود والممانعة»، في شغل شاغل هذه الأيام بعمليات التفاوض مع «الكيان الصهيوني» عبر الوسيط التركي النشيط، لاسترداد هضبة «الجولان» المحتلة منذ حرب 1967 في مقابل اتفاقية سلام مع إسرائيل، وقد تتطور الأمور ويحضر الرئيس الأسد، القمة المتوسطية، في باريس في 13 يوليو المقبل ويجلس على الطاولة نفسها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي «أولمرت»، وقد يحصل لقاء على مستوى القمة، مما قد يثمر تسريعاً للعملية لتنتهي بتوقيع السلام قبل نهاية العام الجاري. وعلى الجانب الآخر الفلسطيني، تبدو «حماس» صاحبة شعار «تحرير كامل التراب الفلسطيني» سعيدة، بل ومزهوة بتوصلها إلى «هدنة» أو «تهدئة» مع الإسرائيليين عبر الوسيط المصري الذي بذل جهوداً مضنية على مدى 4 شهور، في سبيل إقناع إسرائيل بقبول الهدنة، حيث تعهدت «حماس» والتنظيمات المسلحة جميعها بالالتزام بعدم القيام بأي عملية أخرى طيلة 6 شهور قابلة للتمديد، وفي المقابل تقوم إسرائيل بفتح المعابر بين قطاع غزة وإسرائيل لتمرير البضائع والغذاء والأدوية ومواد البناء، أما معبر «رفح» فيعاد فتحه في المرحلة التالية من التقدم في مفاوضات تبادل الأسرى.

Ad

لقد وافقت إسرائيل على التهدئة -أخيراً- ودخلت حيز التنفيذ بدءاً من صبيحة الخميس 19/ 6/ 2008.

لم تكن لاتفاقية «الهدنة» أن ترى النور لولا الجهود المصرية المكثفة التي أبت أن تقف مكتوفة اليدين، وهي ترى مأساة شعب غزة، ومن ناحية أخرى هناك الضغط الأميركي -أيضاً- ولعلنا نتذكر أن إسرائيل رفضت -بعناد- كل الوساطات العربية والدولية، حتى أصبحت «حماس» أشبه بحالة من يستجدي «الهدنة».

من حق أهالي «غزة» اليوم أن يتنفسوا الصعداء، فقد عاشوا كابوساً خانقاً على مدار عام، كان الناس فيه يُغاثون وُيعصرون ويختنقون من جراء استخدام زيت الطبخ، وقوداً لسياراتهم، وذلك منذ انقلاب «حماس» على السلطة الشرعية واستيلائها على «غزة» ثم مناوشاتها العبثية لإسرائيل عبر صواريخ «التنك» التي كان ضررها أكبر من نفعها، مما دفع إسرائيل إلى فرض الحصار الخانق على شعب «غزة» بغير ذنب منهم. أما الطرف الثالث من مثلث «سلاح المقاومة»، فهو «حزب الله» الذي بنى مجده وأسطورته في المقاومة، منذ ولادته وخروجه من عباءة «أمل» في أعقاب الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982 ليكتسب الشرعية ويحمل «سلاح المقاومة»، حتى إذا انسحبت إسرائيل من الجنوب عام 2000، عدّ ذلك انتصاراً للحزب، وقاده غرور النصر إلى توسيع سلطته ونفوذه وممتلكاته بفضل الدعم السخي الإيراني والدعم السياسي السوري -في ظل عهد الوصاية السورية على لبنان- وتحوّل الحزب إلى دولة داخل الدولة وأصبح له مؤسسات اجتماعية وتعليمية وإعلامية مستقلة عن الدولة، وصار له جيش مسلّح بديلاً عن جيش الدولة، وأصبح يمتلك -منفرداَ- قرار الحرب والسلم، لكنه في المقابل بدأت شرعيته -كحامل لسلاح المقاومة- تتآكل شعبياً، خصوصاً أن سلاحه فقد وظيفته القتالية ضد إسرائيل بعد تحرير الجنوب وأصبح لا مبرر له. ومن هنا بدأ التفكير ثم التخطيط للمغامرة التي تحولت إلى «مقامرة» حين تم خطف الجنديين الإسرائيليين لتقوم إسرائيل بشن حرب مدمرة على لبنان - صيف 2006- نعم في سبيل أن يستعيد الحزب شرعية سلاحه جرّ لبنان إلى الخراب والتدمير، لكن شرعية سلاح «حزب الله» ازدادت تآكلاً من جراء ذلك، حتى إذا جاءت القوات الدولية كحاجز فاصل يبعد الحزب عن إسرائيل، انزلق الحزب إلى الداخل اللبناني وتخلى عن دوره الأساسي، ثم ازداد انغماساً في الصراع الداخلي، فكان آخر أمره أن اعتصم وسط بيروت في مخيماته ليشل الحياة الاقتصادية ويشرد الآلاف عن أعمالهم، وكانت السقطة الكبرى حين وجه الحزب سلاحه إلى صدور اللبنانيين واجتاح بيروت واستباحها وأسقط العشرات من الأبرياء وحاصر الحكومة ومؤسسات الحريري، وقصف تلفزيون «المستقبل» وأرسل أعوانه ليحرقوا ويدمروا بهمجية. لطالما وعد أمين الحزب بأن سلاحه لن يوجه إلى الداخل واتهم المعارضين بأنهم خونة يخدمون الأجندة الصهيونية والأميركية، لكن كلامه ذهب مع الريح. لقد ألحق الحزب أعظم الخسائر بسلاح المقاومة وأسقط شرعيته بعدوانه على أبناء وطنه، ولولا «اتفاق الدوحة» التاريخي الذي فتح أبواب البرلمان المقفل وأثمر رئيساً للبنان ورئيساً للحكومة وكبح السلاح وأعاد الابتسامة إلى نفوس اللبنانيين وأحيا لبنان من جديد، لكان لبنان على «كف عفريت».

يبقى صنف آخر من حاملي «سلاح المقاومة»، وهم الأدعياء من الجماعات المسلحة وأتباع «القاعدة» وبقايا النظام السابق في العراق، وقد انكشف زيفهم بعدما عاثوا في العراق فساداً وقتلوا من الأبرياء آلافاً. واليوم أصبحوا مطاردين في كل مكان، يولّون الأدبار لا ملجأ لهم، لقد اتحد العراقيون مع حكومتهم في مواجهة هؤلاء، واستردت القوات العراقية عافيتها فضاقت الأرض عليهم ولم يجدوا مفراً إلا بتسليم أسلحتهم وليقولوا: وداعاً لسلاح المقاومة «الزائف» كما حصل في عملية «بشائر السلام».

*ما الدروس المستفادة من محنة المجتمعات العربية مع (سلاح المقاومة)؟!

لقد عاش العرب دهراً، وهم يقدسون «سلاح المقاومة» ويمجدون حامليه، ولا يرضون المساس به، وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل تمكينه، لقد حكم هذا السلاح وعيهم التأسيسي فأصبحوا لا يطيقون نقداً له، أهدرت الثروات وضاعت أجيال وتبدلت أنظمة وحكومات ثم استفاق العرب ليجدوا أن الأوطان هي الأثمان، حين ظل هذا السلاح سبيله في (3) مختبرات أساسية: فلسطين، ولبنان، والعراق.

إن تجربتَي «حماس» و«حزب الله» مثالان يؤكدان تلك الحقيقة. لقد انقلب السلاح عن وظيفته الأساسية ليوجه إلى الداخل، فأصبح سلاحاً يهدد المجتمع ويزعزع كيان الدولة ويواجه السلطة الشرعية ويعمّق الانقسام الداخلي ويثير الرعب.

لقد تحول السلاح إلى أداة لتحقيق مكاسب سياسية وطروحات إيديولوجية -المعارضة اللبنانية تطالب اليوم بمراعاة الحقائق على الأرض، أي قوة السلاح- والأخطر من كل ذلك أن سلاح المقاومة أصبح اليوم «أداة» مسخّرة لخدمة الخارج. ومهما دافعنا أو بررنا هذا السلاح تبقى حقيقة أساسية: مَن يملك السلاح يريد الحكم، و«حزب الله» الذي تآكلت شعبيته يريد اليوم أن يحكم ببندقيته، وهو يوظفها لذلك، ولا علاقة لسلاحه بالمقاومة، وحتى لو رجعت «شبعا» سيظل محتفظاً بسلاحه ربما إلى أن تحقق إيران حلمها النووي!

علمتنا التجارب السابقة واللاحقة أنه باسم «المقاومة» تمت المتاجرة بقضية فلسطين منذ عام النكبة (1948) وأصبحت تجارةَ لن تبور، بدءاً بزعماء قوميين وانتهاءً بقادة فصائل، ألهبوا الجماهير بخطبهم الحماسية بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر فصدقتهم الجماهير وسارت وراءهم، وكانت العاقبة نصف قرن من الفشل وهدر الثروات والإمكانات.

«المقاومة»... حق مشروع ولا أحد يتنكر للمقاومة البصيرة، فالحياة كلها تقوم على المقاومة، وكل تقدم هو ثمرة للمقاومة، والمقاومة صحة، لكن العرب بالغوا في تقديس المقاومة والمقاومين واعتبروهما خطاً أحمر، ورفضوا أي نقد لهما بحجة أن ذلك يخدم العدو، فتراكمت الأخطاء وضلت المقاومة السبل، وكانت المحصلة أن إسرائيل التي احتفلت أخيراً بمرور 60 عاماً على تأسيسها، أصبحت اليوم أكبر قوة وأعظم اقتصاداً وأمنا، بينما «المقاومة» تعربد في بلاد العرب عبر حروب التدمير الذاتي والعمليات الانتحارية، أما أجهزة «الإعلام» فمازالت أسيرة للعواطف الجماهيرية تغذيها بالانتصارات الوهمية.

*كاتب قطري

بالمشاركة مع «الوطن» القطرية