اختلطت الشعارات الدينية بشعارات العدالة بأخبار الصفقات والمشاريع والتنفيع والمصالح والفساد، وضاعت الحقيقة بين الجميع، وأضحى عوام الناس في خدعة كبيرة، وصار من يفكر في قول الحقيقة إما محبطا يائسا أو يخشى على نفسه أن يتهم بأنه من الفاسدين!

Ad

سألت صديقي الذي يرفض دائما الكشف عن اسمه، أسوة بكثير من مسؤولينا، ويفضل أن يشار إليه دائما بصفة المصدر المطلع والمتابع بعمق لكل ما يجري في الساحة، وإن كان فقط من خلال الصحف اليومية والأسبوعية ومواقع الإنترنت والمنتديات والمدونات والديوانيات، إلا أنه يصر دائما على أن مصادره هي ذاتها التي تحرك الساحة السياسية وتستقي منها قوانا السياسية ونوابنا وقياديينا كلهم معلوماتهم، وأنه يتفوق على هؤلاء مجتمعين لتفرغه الدائم للمتابعة وعدم انشغاله بمشاريع أو صفقات أو ما شابه ذلك من أنواع «البزنس» الأخرى، الجائزة وغير الجائزة، سواء شرعا أم قانونا أم عرفا!

أقول سألته وهو ممن كانوا إذا تحدثوا أسهبوا، وإذا شرحوا أطالوا، وإذا تكلموا تخالهم لن يسكتوا، فقلت له: يا أبا عبدالله (وهو اسم حركي) ما رأيك بما يجري في البلد؟ فرمقني بنظرة زجاجية خالية من أي تعبير ذي دلالة على غير عادته، ورشف قليلا من «استكانة» الشاي التي كانت تطفو على صفحتها بعض عيدان الزعفران، و«تنحنح»، وأدار مسباحه الأصفر في يمينه، وقال سأخبرك بحكاية، فابتسمت وأنا أستعد لحديث سيبدأ ولن ينتهي قريبا، وقلت هات.

قال: يُحكى أن ثلاثة أشخاص حُكم عليهم بالإعدام بقطع رؤوسهم بالمقصلة، رجل دين، ومحام، وعالم فيزياء. وُضع رجل الدين على المقصلة، فقالوا له قل كلمتك، فصاح: أنا بريء بريء، وأؤمن بأن العناية الإلهية ستنقذني. وأطلقت شفرة المقصلة لتتوقف على بعد سنتيمترات من رقبته، فشهق الحضور وصاحوا: إنه بريء بريء، فأطلق سراحه. أحضروا المحامي فوضعوه على المقصلة نفسها، وقالوا: قل ما لديك، فصاح أنا بريء بريء وأؤمن بأن العدالة ستنقذني، وأطلقت الشفرة لتتوقف كما حصل مع صاحبه على بعد سنتيمترات من رقبته، ليصيح الحضور إنه بريء بريء، فيطلق سراحه أيضا.

جاؤوا بعالم الفيزياء، فوضعوه على المقصلة وقالوا: ما لديك، فقال أنا عالم فيزياء ولا أدري عم يتحدث رجل الدين والمحامي، ولكن كل ما أنا متأكد منه هو أن هنالك خللا ميكانيكيا في هذه المقصلة، فنظروا فيها وإذا بعقدة في الحبل تمسك بالمقصلة في اللحظات الأخيرة من سقوطها فتمنعها من الانزلاق. قاموا بإصلاحها، وأطلقوها على رقبته فتدحرج رأسه على الأرض!

سكت أبو عبد الله، وعاد يرشف من «استكانة» الشاي ويقلب مسباحه الأصفر، انتظرت قليلا عله يكمل فما فعل. قلت: ما الذي تريد قوله؟... فقال لا أدري، ولا أظن أحدا عندنا اليوم يدري عن شيء، فقد اختلطت الشعارات الدينية بشعارات العدالة بأخبار الصفقات والمشاريع والتنفيع والمصالح والفساد، وضاعت الحقيقة بين الجميع، وأضحى عوام الناس في خدعة كبيرة، وصار من يفكر في قول الحقيقة إما محبطا يائسا أو يخشى على نفسه أن يتهم بأنه من الفاسدين!

التزمت الصمت ولم أتحدث، قطع الهدوء رنين هاتفي، قال لي محدثي على الطرف الآخر: ما رأيك في التشكيلة الحكومية الجديدة وماذا تظن سيكون رد فعل النواب؟ أجبته: اسمح لي أن أخبرك عن حكاية رجل دين ومحام وعالم فيزياء!